الثلاثاء، 21 أكتوبر 2008

قانون انتخابات مجالس المحافظات وتوزيع الأقليات على مراتب
ناظم ختاري
تابع الجميع ، كيف ألغت الكتل البرلمانية في مجلس النواب العراقي ، المادة رقم 50 من قانون مجالس المحافظات ، الخاصة بنظام الكوتا للأقليات العرقية والأثنية والدينية ، وتابع الجميع الفعاليات الواسعة الرافضة لإسقاط هذا الحق عن أبناء الأقليات وتراجع نفس هذه الكتل عن عملية الإلغاء والتنصل من عملية تصويت أعضاءها لصالح الإلغاء ، وفي هذا الشأن قيل الكثير ، وقيل إن الأقليات هي أصل العراق وإن الدفاع عن حقوقها الدستورية والسياسية واجب كل الكتل البرلمانية وهو واجب وطني وله أولوية تفوق كل الأولويات الأخرى كالطائفية والقومية والحزبية ، وقيل إن الأمر لم يكن مقصودا ، ولكنه نجم عن خطأ ما ، ووجدنا إن غالبية مراجع هذه الكتل وقادتها وأعضاءها ، تحولوا بين لحظة وأخرى ، إلى أهم المدافعين عن هذه الأقليات ، بل إلى جزء منها ، من شدة حماسهم ودفاعهم عن حقوقها ، حتى شعر البعض منا إن عددا منهم قاب قوسين وسيتبرأ ون من انتماءهم لقوميتهم الكبيرة أو من طائفتهم المهيمنة أو من أحزابهم وسيتوزعون وفق القانون وبالتساوي ودون أي تميز على هذه الأقليات ... فمثلا ، أحدهم قد ينتمي وفق مراسيم دينية رسمية وعلى مرأى الجميع إلى المسيحية .. ولماذا لا .! فهو يفعل هذا لإلغاء التميز بين الأديان العراقية وإيمانا منه بأنه لا فرق بين هذا الدين أو ذاك ، ولتلقين الآخرين دروسا في الإخلاص لمواطني بلاده وأديانهم ، حيث كلها موجودة على أرض العراق وتنعم بخيراته وتشارك في قراره وبناءه .. وآخر ربما سيعود إلى ديانته الأيزيدية القديمة دون خشية من أحد ، لأنها ديانة أجداده ، فلا ضير على الجميع أن يعودوا إليها ويعملوا حتى في الأحزاب الدينية لهؤلاء الناس ، فلا فرق بين هذا الحزب أو ذاك ، إذ أن القانون يحمي للجميع حق ممارسة النشاط السياسي في أي حزب كان وأينما كان ، وثالثا قد يسرع إلى الصابئة المندائية طالبا منهم الصفح عنه ، وقبوله في حزب خاص بهم يبدأوا بتأسيسه في الحال ، طبعا استنكارا لقرار مجلس النواب الذي شاركت كتلته فيه وألغي بموجبه المادة رقم 50 .
وقلنا إزاء هذا إذن من فعل هذا .. من كان وراء قرار إلغاء المادة رقم 50 .. ؟؟ وقلنا ربما ... نعم ربما إن وفودا أو جموعا من الأقليات كانت تقف أمام مبنى مجلس النواب وتهتف ، لا لحقوق خاصة بنا ولاسيما نحن متساوون في كل شيء مع الآخرين ، فلا تميز بيننا وبين الآخرين ، ولا هناك قتل يستهدفنا على الهوية ولا تهجير ولا أي شيء آخر ، ونحن مثل الآخرين نصنع القرار السياسي العراقي .
كل الذي حصل من تنصل وتبريرات وخطابات ثورية مدافعة عن حقوق الأقليات وغيرها ، كاد أن يبكينا كثيرا ولأيام طويلة ، لثلاثة أسباب طبعا .
الأول ، فرحا لأن هذه الحقوق ستعود ، بعد الحمية من قبل الجميع ، وستبقى الأقليات ممثلة في مؤسسات الدولة المنتخبة وخصوصا في مجالس المحافظات التي يقع عليها عبء بناء عراق المواطن المتساوي ، مادام كل هذا الجمع السياسي العراقي يجتمع عليها وعلى أحقيتها .
والثاني ، بسبب شعورنا ، لأننا لم نقدر حق التقدير ، مدى حرص هؤلاء القادة الميامين على مصالح العراقيين وفي مقدمتهم أبناء الأقليات ، ولذلك أخطأ من منا كتب كلمة غير لائقة بحق هذا القائد السياسي أو ذاك واتهمه بالطائفية أو بالعنصرية أو غيرها من النعوت ، التي هو على بعد آلاف الأميال منها ، أو من منا خرج في مظاهرة تطالب بحقوق الأقليات في أحدى دول المهجر ، وهتف لا لضياع حقوق الأقليات .. لا للتهميش .. يا إلهي ، ضد من كتبنا وهتفنا ..؟ أضد هؤلاء قادتنا "النازكين " .. ؟ ومن منا أحرص منهم على حقوق الأقليات وبقية العراقيين .. !.
فإذا أردت أن تعرفهم بشكل جيد ، يمكنك أيها ألأقلياتي ، أن تفتش في كل دائرة من دوائر الدولة ، إبتداءا من مؤسسات مجلس الرئاسة ، وانتهاءا بآخر مجلس للإسناد ، فسوف لا تجد قطعا ولو عنصرا واحدا ينتمي إلى أحزاب هؤلاء القادة أو أي حزب طائفي آخر ، يعمل موظفا أو حتى فراشا فيها ، إذ كل العاملين فيه هم من أبناء الأقليات ... ولو دققت في حسابات كل أعضاء أحزابهم فسوف لا تجد ولا واحدا منهم يملك غير راتبه المتدني جدا وبيتا للإيجار غير صالح تماما للسكن ، معلقا في بابه ، لوحة كبيرة تقول " أعوذ بالله من الفساد ومن ملك منا نحن المؤمنون ومن أبناء الأحزاب والكتل الحاكمة أكثر من العامة" ، و لو تجولت نهارا جهارا في كل شوارع المدن العراقية بما فيها مدينة الموصل لما وجدت فردا واحدا من الميليشيا يحمل سلاحا وينغص لك فرصتك في التجوال فيها ، بل الأكثر من هذا ، سيقدمون لك ما ترغبه من حماية .. ولكن ما لك وللحماية وأنت تعيش الأمان بنسبة غير مسبوقة في كل بلدان العالم ، أما الخدمات أيها ألأقلياتي ، فحدث ولا حرج ، المولدات الكهربائية يجري شراءها على حساب رواتبهم المنخفضة وتتوزع على أبناء الأقليات ، والفائضة على باقي كادحي العراق ، وهكذا بالنسبة إلى الأدوية ومقاعد الدراسة وووووووو إلخ ، إذ يرفضوها لأبنائهم ويقدموها إلى أبناء الفقراء وفقا للقانون . ألم أقل لك إننا لم نقدر لهؤلاء حق التقدير .. وقلنا فيهم الكثير ولكنهم جاؤوا يطبطبون على ظهورنا ، يخففون عنا عبء خطأنا ، بسبب اتهاماتنا لهم دون وجه حق في هذه القضية .
أما السبب الثالث الذي جعلني أن أشعر ببكاء مر في هذه المرة أيها السادة ، ويا أبناء الأقليات العراقية ، فإنه يكمن في نفس الموضوع ، فبعد هذه التصريحات النارية من قبل جميع قادة وأعضاء هذه الكتل البرلمانية إزاء هذا الحق المضيع ، وبعد المظاهرات الصاخبة التي خرجت تنديدا لهذا الضياع والكتابات المتضامنة مع هذا الحق الضائع ، تبين إن كل الكتل التي شحنت أعضاءها كذبا بمشاعر التضامن والدفاع عن الحق الضائع ، رفضت أن تحمل معها مشروعا لحل المعضلة المتعلقة بحقوق الأقليات الانتخابية ، وتبين أيضا إن الكتل التي تمثل الأقليات والتي قلبت الدنيا ولم تقعدها هي الأخرى لم تقدم مشروعا موضوعيا للتمثيل ألأقلياتي في مجالس المحافظات ، مما حدا بالسيد خالد شواني عضو التحالف الكوردستاني إلى طرح مقترحا باسم التحالف ، يقول بصدده " ان التحالف قدم مقترحا جديدا بشأن تمثيل الاقليات في انتخابات مجالس المحافظات وسيكون الحل لقضية تمثيل الاقليات. واضاف شواني" ان المقترح يقضي بفصل قضية الاخوة المسيحيين عن الاقليات الاخرى كالايزدية والشبك لان المسيحيين كل الكتل البرلمانية تؤكد انهم لا اعتراض عليهم ولا توجد خلافات حول تمثيلهم في انتخابات مجالس المحافظات وعدد المقاعد التي يستحقونها في المحافظات وبالتالي بالامكان ان يعرض مشروع القانون بمادتين منفصلتين. "وتابع يقول "المادة الاولى تنص على حقوق المسيحيين وسيتم بشكل سلس واعتيادي لطالما لا توجد هناك اعتراضات عليه من قبل الكتل البرلمانية ويتم التصويت عليها اما بخصوص الشبك والايزديين من الممكن اجراء مناقشات حولها وايجاد الية وفصل قضية الاقليات الاخرى عن المسيحيين.واكد "تكلمنا مع الاخوة المسيحيين حول هذه المقترح وهم وافقوا على المقترح وراضون ايضا وبالتالي تبقى موافقة الكتل البرلمانية على هذا المقترح. واضاف "اعتقد انه حل مناسب لهذه القضية وخروج من مشكلة تمثيل الاقليات . "
مع تضامني المطلق لحق المسيحيين التمثيل في مجالس المحافظات ، إلى أن هذا المقترح يأتي كمحاولة لتفريق التقارب الذي حصل بين جهود أبناء الأقليات للمطالبة بحقوقهم التمثيلية ويهدف في نفس الوقت إلى التعامل مع هذه الأقليات وفق درجات تعتمد على شكل الدعم الذي تحصل عليه كل أقلية من العالم الخارجي ، "فالأقلية المسيحية العراقية" وخصوصا بعد تعرضها إلى حملة تهجير ظالمة وواسعة من مدينة الموصل حضيت بمساندة دولية وإقليمية واسعة " رسمية وشعبية ودينية" لا يمكن للأطراف العراقية أن لا تأخذها بنظر الاعتبار أو أن لا تحسب لها حسابات متوازنة ، أما الأقليات الأخرى فليس لها ظهير كهذا ، وعليه فإن أبناءها كمواطنين عراقيين يشغلون في المعادلة الحالية المرتبة الثالثة .
النضالات الجماهيرية المطلبية كفيلة بعودة الحقوق دائما .
ناظم ختاري
أثبت تراجع القوى الأساسية المهيمنة في مجلس النواب ، عن تصويتها لصالح إلغاء المادة رقم 50 من قانون انتخابات مجالس المحافظات ، والمتعلقة بتخصيص نظام الكوتا الذي يضمن للأقليات بعض المقاعد في مجالس بعضا من المحافظات العراقية ، جدوى التحرك الجماهيري ونشاطات قواها السياسية ، فالأحزاب والكتل البرلمانية التي تجاهلت حقوق الأقليات عندما أقدمت على التصويت على القانون المذكور وإلغاء المادة المذكورة منه ، بدأت تشعر الآن بمدى حراجة موقفها ، جراء احتجاجات أبناء الأقليات على هذه القرصنة التي أضاعت حقوقهم أو أرادت ذلك ، والانتقادات الموجهة لها على نطاق واسع على المستويات الوطنية والدولية ، والتي لم تكن تتوقعها ، وأثبتت نضالاتها المتنوعة من مظاهرات وبيانات شجب واستنكار وتحريك المسألة دوليا ، والتي خاضتها منذ اليوم الأول من إلغاء المادة المذكورة ، ووقوف القوى الفعلية المدافعة عن حقوقها إلى جانبها من أحزاب ومنظمات مجتمع مدني وشخصيات سياسية وثقافية دورها الفاعل في ردع كل من يحاول إقصاء الآخرين والتملص إزاء حقوقهم الطبيعية .
ولاشك إن التصريحات المتوالية في الأيام الأخيرة والتي أعقبت هذا النضال ألمطلبي من قبل غالبية أصحاب القرار في هذه الكتل والأحزاب التي ألغت المادة رقم 50 وضرورة عودتها والوقوف إلى جانب حقوق الأقليات ، والحلول والمقترحات التي تقدمت بها هذه الجهة أو تلك وتأكيد الجميع على هذه الحقوق ، إنما تأتي من منطلق " الحق يؤخذ ولا يعطى " فقبل هذه التصريحات والتبجح بالدفاع عن حقوق الأقليات ، وأثناء التصويت على القانون ومنذ بداية العملية السياسية ما بعد سقوط النظام ، كانت هذه الأقليات موجودة وكانت تشكو كثيرا من إقصاءات وإسقاطات متكررة واعتداءات شملت كل جانب من جوانب حياتهم الخاصة والعامة بل حتى وجودهم على أرض بلادهم ، والذين يتعرضون إلى هجمة شرسة لتركها وراءهم والتوزع في دول المهجر ، وكان لابد من هذه الحقوق ، ولكنه ومن منطلق التعصب الديني والطائفي والعرقي أصرت هذه القوى على ممارسة أسلوب المحاصصة الذي غيب هذه الحقوق وهمش إشراك أبناء الأقليات في الجهد الوطني لبناء دولة العراق المدنية ، وشوه مسيرة العملية السياسية التي تحتاج إلى مراجعة جدية وإلى تغيير أدواتها ومعالجة أغلب ما يرافقها من تصدعات لصالح الجماهير العراقية العريضة .
ولكنه رغم ذلك ، أود القول هنا بأن هذه القوى الطائفية لا يمكن لها أن ترضخ بسهوله لمطالب الأقليات ، وخصوصا إن ما تطرحه لحد الآن بهذا الخصوص لا يتعدى عن كونها وعود على شكل اقتراحات ، ربما تتراجع عنها في غفلة عن الآخرين ، كما تراجعت أو تتراجع عن الكثير مما قالته في برامجها الانتخابية ووعدت جماهير الشعب العراقي بها ، ولكن ما أن اشتدت قبضتها على دفة الحكم حتى بدأت هذه الجماهير التي صوتت لصالحها تشكو بمرارة عن حرمانها من أية إنجازات تحققت لها ، لذا لابد من التأكيد هنا على ما يلي .
1- ضرورة استمرار هذه الاحتجاجات الجماهيرية المصحوبة بتأييد الأحزاب الوطنية لها ، وكل المخلصين من أبناء العراق الغيارى ، والسعي لتعزيز وتيرتها وتوسيعها حتى تشمل بقية الأقليات التي أحجمت عن المشاركة الفعلية واكتفت ببعض بيانات خجولة صدرتها في أوقات متأخرة .
2- لابد لهذه الأقليات أن تقدم تعديلا موضوعيا أو بديلا آخرا عن المادة رقم 50 باعتبارها تشكل جزءا من حقوقهم التمثيلية في مجالس المحافظات ، وليس كل حقوقهم ، فمثلا لا يمكن أن يكون القانون منصفا عندما يجري تخصيص مقعد واحد لأبناء الأقلية الأيزيدية في مجلس محافظة نينوى وهكذا بالنسبة إلى مجلس محافظة دهوك ، وكما هو معلوم بأن عدد نفوس الأيزيدية ربما يفوق الـ 500000 نسمة في محافظة نينوى.
3- لابد للقوى الوطنية والأحزاب السياسية الديمقراطية والعلمانية أن استفادت من هذه التجربة ، والسعي بشكل جدي من أجل قيادة النضالات المطلبية للجماهير العراقية العريضة وخصوصا الأوساط الكادحة منها وأبناء الأقليات الدينية والقومية والمرأة والشبيبة والطلبة ، التي تعاني المزيد من الحرمان بسبب تراجع أحزاب السلطة عن تنفيذ برامجها وجشع المتنفذين من رجالاتها وسطوتهم على أموال الشعب ومقدراته وحقوقه ، والمزيد من شرور إرهاب القاعدة والقوى المتحالفة معها وإرهاب الميليشيات التي لازالت تمتلك مقومات المبادرة والقدرة على إعادة الأوضاع الأمنية إلى مستويات سيئة يكتوي بها العراقيون مرة أخرى ، بسبب الخلل الذي يترافق عملية محاربتها ، والسعي المتزايد من قبل جميع الأطراف الأساسية للاحتفاظ بميليشياتها أو تأسيس المزيد منها ، كما عند مجالس الإسناد التي تتشكل بجهود السيد المالكي في مناطق الفرات الأوسط والجنوب .

لا ديمقراطية دون صيانة حقوق الأقليات
ناظم ختاري
إذا كانت الأقليات العراقية في السابق ، تتعرض إلى سلب حقوقها ، فلأنها كانت تعيش في ظل نظام دكتاتوري لم يدعي الديمقراطية أبدا ، وفي ظله كان سلب الحقوق والقتل وقطع الأذان أو اللسان والسجن والتشريد والملاحقة وهدم البيوت وقطع الأرزاق أمرا طبيعيا جدا ، و كان الجميع يدرك مدى عدوانية هذا النظام ، فشعب العراقي كله ، كان يستغيث من أجل الخلاص من طغيانه وجبروته ، وعلى هذا الأساس شارك العراقيون تحت راية عراقيتهم لمقارعته .. ولكن الأمر غير الطبيعي ههنا ، هو إقدام الأحزاب البديلة عن نظام صدام حسين ، والتي ناضل إلى جانبها أبناء الأقليات للتصدي له ، والتي أصبحت تحكم الآن تحت لواء الطائفية والتعصب الديني والقومي ، وتتحاصص فيما بينها على سرقة العراق أرضا وثروة وحقوق شعب ، وفي الوقت الذي كانت هذه الأحزاب ترفض فيه تلك الدكتاتورية وبشاعة ممارساتها ضد الشعب العراقي ، سرعان ما لجأت إلى نفس أساليبه ، وإلى أخرى أكثر خطورة منها ، في قهر الآخرين ، وهنا في هذه السطور لست معنيا بسرد كل هذا القدر من الجرائم المرتكبة بحق العراقيين ، بقدر ما أريد إطلاق صرخة في وجه القرصنة الدائمة لحقوق الأقليات ، رغم الادعاء الكثير ، بصيانتها وحمايتها ، والتبجح بين الفينة والأخرى ، بأن لولا الجهة الفلانية لما أعيدت تلك الحقوق المسلوبة من قبل هذه الجهة أو تلك ، الأمر الذي يؤدي إلى خلط الأمور لدى أبناء الأقليات المخلصين ، وتضللهم دعوات هذه الجهة أو تلك .
لاشك إن الكل يعلم ، إن هذه القرصنة اشتدت وتيرتها منذ سقوط النظام عبر إلغاء تمثيلها في مؤسسات الحكم التي أعقبت السقوط ، أي بداية ، في مجلس الحكم الذي ضم ممثلا واحدا عن المسيحيين ، وأًسقط منه تمثيل باقي الأقليات ، حينها توهمنا وقلنا إن في الأمر خطأ لم ينتبه إليه السياسيون ، إذ كيف لديمقراطية ما بعد السقوط الجديدة والطرية ، أن تنسى أبناء الأقليات المناضلين من أجلها ..! وقيل حينها وعلى الأقل في حدود السياسة في إقليمنا ، إن الأمر سيتعالج بإناطة الكثير من المسؤوليات لهؤلاء أبناء الأقليات ، وهذا سيكون تعويضا عما فقدوه من دور في قمة الهرم ، وبالتالي فإن الجميع سيواصل المسيرة ويساهم من نفس المسافة في صناعة القرار السياسي للدولة العراقية الجديدة ، دون أن يتقدم فلان على علان ، وبعيدا جدا عن التحاصص الطائفي أو ما إلى ذلك من أشكال المحاصصة.
لكنه مجلس الحكم أنهى حكمه للبلاد ، ولم يجر تعيين فراش من الأقليات في مركز مهم من مراكز القرار ، التي تعددت كثيرا ، وهيمنت عليها قوى المحاصصة ، وسلطت سيوفها على رقاب الأقليات ، وحرمتها من المشاركة الفعلية لاحقا في كل الفعاليات السياسية والدستورية التي كانت تتوالى واحدة بعد الأخرى ، وأكثرها إثارة للهلع ، كان منع أبناء الأقليات من المشاركة في حقهم الدستوري وحرمانهم من التصويت في الانتخابات الأولى ، في الغالبية العظمى من مناطقهم الواقعة في "ده شت" الموصل.
وتعبيرا عن هذه السياسة الطائفية المتطرفة والتعجرف الديني والقومي تعرض مندائيوا العراق ومسيحيوه إلى انتزاع قسري من أرض بلادنا في الوسط والجنوب وأغلقوا أبوابها بإحكام بوجه الأيزيديين الذين كانوا يجدون هناك فرص عمل لهم في أوقات سابقة ، ولم ينج هؤلاء من المذابح التي نظمت بحقهم في المناطق الأخرى مثل بغداد والموصل ، ولاشك إن التفجيرات المتكررة في الأديرة والكنائس المسيحية ومأساة الشيخان وكارثة كرعزير وسيبا شيخدرى ومذبحة عمال معمل نسيج الموصل ومقتل رئيس مطارنة الكلدان في نفس المدينة ، وغيرها من الغزوات والفتوحات التي شردت وتشرد الآلاف إلى بلدان المهجر وأبعدت المئات من طلبة الأيزيديين من جامعة الموصل ، لازالت ترن في ذاكرة الجميع ، والتي كانت ولما تزل من إفرازات سياسات المحاصصة الطائفية ، والصراع من اجل السلطة وسرقة المزيد من أموال الشعب والهيمنة على مناطق النفوذ.
كل هذا يجري وأبناء الأقليات "خميرة العراق وأصلاءه " أصروا على متابعة مسيرة العراق الجديد ويأملون انتصارها ، علها أن تعيد إليهم مواطنتهم وحقوقهم المسلوبة في شتى المجالات ، وتوقف ملاحقتهم وتشردهم من مناطق سكناهم ، و تابعوا بقلق شديد الفصل الأخير من الخلافات بين الفرقاء التي اشتدت بشأن قانون انتخابات مجالس المحافظات ، الذي ولد مشوها في ظل ظروف عصيبة وصراع محتدم بين الكتل المهيمنة ، التي أهملت مصلحة العراق وشعبه لحساب المصالح الطائفية والفئوية وما إلى ذلك ، ومن أهم أعراض تشوه هذا "المولود" القانون هو خلوه من أية مادة تخص حقوق الأقليات وضرورة تمثيلها في مجالس المحافظات أو وجود مواد تضمن لها حق التمثيل ، بالرغم من أن القانون الملغي كان يحتوي على بعضا من هذه الحقوق للمسيحيين وأخرى بائسة للأيزيديين لاتتناسب ونسب تواجدهم في محافطتي نينوى ودهوك ، ولا شيء للصابئة المندائيين ضمن المادة رقم 50 من هذا القانون والذي جرى نقضه من مجلس الرئاسة .
إذا كانت كل جولة من غمط حقوق أبناء الأقليات ومستحقاتهم تبرر بالنسيان في حين ، وبعدم وجود توافق فيما بينهم في حين آخر ، وفي ثالث عدم وجود إحصائيات أو غير ذلك .. فإن الإصرار المتكرر على تسويق مثل هذه التبريرات الواهية واختلاق غيرها ، لا تقنع أحدا ومعهم أبناء الأقليات ، باعتبارها سببا موضوعيا فيما يحصل من اعتداءات متكررة بشأن هذه الحقوق ، بل إن الأمر يزيدهم قناعة بأنه ناجم عن رغبة حقيقية لإفراغ العراق من أبناءه الحقيقيين ، وفي نفس الوقت فهو يؤكد لهم دون أدنى شك بأنه دليل إضافي ، كون أحزاب المحاصصات السياسية غير مؤهلة وليست مستعدة لبناء دولة القانون والمؤسسات والتشريعات القادرة على حفظ حقوق الجميع وخصوصا الأقليات ، وإن عدم تشريع هذه الحقوق وعدم صيانتها أو عدم احترامها يتنافى بشكل صارخ مع مبادئ الدولة الديمقراطية القائمة على أساس دستور مدني .
إزاء هذا التناسي أو مجموع التبريرات المساقة منذ بداية العملية السياسية ، والتي تكررت بموجبها الإسقاطات والاعتداءات على حقوق أبناء الأقليات ، فليس عليهم إلا أن يتضافروا الجهود ويعززوا التنسيق فيما بينهم والالتفاف حول القوى الديمقراطية لتقوية بأسها والضغط عليها للم شملها ، كونها القوى الوحيدة المدافعة عن حقوقها بشكل فعلي ، كما تدافع عن حقوق بقية العراقيين دون تفرقة أو تمييز ، وهذا هو الرد المناسب لإعادة الحق إلى نصابه وتقديم برهان عملي بأن أحزاب السلطة القائمة لا تمثل الأقليات ولكنها تمثل مصالح ضيقة لطوائفها وأعراقها وبالتالي لا يمكن لها أن تنتهج إلا سياسة عرجاء بحق الأقليات .

الأربعاء، 7 مايو 2008

محطات من أنفال به هدينان - المحطة التاسعة


محطات من أنفال به هدينان
ناظم ختاري
(المحطة التاسعة)
يروي العديد من الرفاق الأنصار إنه عندما احتلت قوات النظام قرية كافيا وأغلقت الطريق أمام سكان القرى و قوات البيشمه ركه وبعد تراجعهم والتجمع في نهاية كه لى كافيا قريبا من قريتي (جه م جال وجه م شيرتى)* طرح البعض فكرة تسليم جميع العوائل إلى هذه القوات عبر وساطات ينفذها بعض الوجهاء مع رؤساء الجحوش وهم بدورهم ينفذون الاتصالات مع ضباط الجيش حول هذا الأمر وفيما إذا كان هذا التسليم لا يلحق الضرر بهؤلاء السكان وبعد أن تم التحرك على هذا الأساس وسط رفض العديد من البيشمه ركه تسليم عوائلهم تحت أية ذريعة كانت جرى الاتصال بأحد الضباط المسئولين عن القوات التي كانت تحاصر هذه المنطقة الذي أجابهم بقوله ، لو جاء هؤلاء الناس وسلموا أنفسهم وتقرير مصيرهم كان بيدي لعملت كل ما بوسعي للحفاظ على حياتهم ، ولكن هناك توجيهات صارمة صادرة من صدام حسين بشكل شخصي تؤكد على قتل كل من يلقى القبض عليه أو يسلم نفسه سواء كان مسلحا أو غير مسلح أو كان رجلا أو امرأة أو طفلا . وهذا ما دفع هؤلاء الناس إلى الاحتماء بجبل كارة الذي نتحدث عنه ضمن هذه الحلقات ، إن هذه الواقعة أحدثت تصورات متفاوتة لدى المحاصرين ولكن النتيجة كانت واحدة في رؤى الجميع فوجد البعض أن هذه القوات المتقدمة تريد جمعهم في منطقة محدودة لكي يساعدها ذلك على الانقضاض عليهم بسهولة وآخرون صدقوا ما قاله الضابط عن الأوامر الصادرة من صدام حسين مباشرة بشأن القضاء على كل من يسلم نفسه أو يجري إلقاء القبض عليه لأنهم كانوا يعرفون جيدا الطبيعة العدوانية لشخص صدام حسين ، وفي الواقع لم يكن هناك غير خيار التسليم أمام هذه الأعداد الكبيرة من العوائل وخصوصا بالنسبة إلى سكان هذه القرى الذين سيتعرضون إلى البرد والجوع والعطش والأمراض .
في كل الأحوال وجد المحاصرون إنهم في وضع حرج وأمام خيار واحد لا غيره وهو الموت المحقق على يد هذه القوات سواء سلموا أنفسهم أم بقوا محاصرين في كارة ، فعند التسليم أصبح واضحا لدى الجميع أن هناك أوامر صادرة من صدام نفسه تدعو إلى قتلهم أو على الأقل أن هذه القوات رفضت قبول الاستسلام وهذا يعني إنها تبيت لهم نية القتل لا غير ، ولذلك عند البقاء اضطرارا في هذا الحصار كان الجميع تراوده فكرة أن هذه القوات سوف تقضي عليهم على حين غرة بواسطة أسلحة كيماوية ، أو سيموتون جوعا أو عطشا أو بردا أو مرضا مع استمرار الحصار المفروض عليهم .
في الحلقات السابقة حاولت الإحاطة بكل ما كان يحيط بالقضية من قرارات سياسية وعسكرية التي فشلت في تحقيق أهدافها أمام إصرار قوات النظام على فرض إرادتها وتحقيق مخططها في القضاء على الحياة في ريف كوردستان من خلالها تفريغها من السكان وهدم قراها وردم عيون المياه والقضاء على ثرواتها ( الحيوانية والنباتية ) . وفي الحلقات القادمة سأبذل جهدي للحديث عن جوانب أخرى أعتقدها مهمة لكي يستطيع القارئ الكريم التواصل معنا ونحن في هذا الحصار الذي أصبح يهدد حياة الآلاف منا بكل شراسة .
استمر تدفق الناس إلى هذا المكان من جبل كارة إلى ما وراء الظهيرة وبقيت العديد من المجاميع في أماكن أخرى متفرقة من نفس الجبل خشية من أن يكون التجمع في منطقة ضيقة هدفا سهلا لهذه القوات .
بعد أن التقينا العديد من الرفاق والأنصار و عوائلهم وسكان هذه القرى المحاصرين وبعد أن استمعنا إلى قصص العديد منهم توفر لنا ما يكفي من الوقت للراحة والنوم ، وكان واضحا أن الموقع الذي كنا نتجمع فيه منذ أمس البارحة وصباح اليوم الباكر لم يكن مناسبا لقضاء الليل فيه ولم يكن سوى بمثابة المحطة الأولى للتجمع بعد التراجع أمام تقدم قوات النظام ، وكان واضحا أن هذه العوائل ستحتاج إلى الدفْ في الليل فليس من السهل أن يعيش الإنسان في مثل هذا الوقت ليلا دون نار أو شيئا يتدثر به ، فلم يكن بالإمكان إشعال النيران في هذا المكان كونه كان يقع مقابل تجمعات القوات المتقدمة فبذلك يمكن لهذه القوات النيل من هؤلاء المحاصرين بواسطة قصفها أي لو أقدمت على إشعال النيران لأنها ستصبح هدفا معلوما ، لذلك كان لابد من التنقل إلى منطقة أخرى تتوفر فيها هذه الإمكانية في الليل للاتقاء من برد قمم كارة ... فاستعد كل هذا الكم من البشر لشق الطريق إلى واد يقع بالقرب من هذه المنطقة خلف قرية ئه ركنى وفي أعاليها ورغم كل ما كان ينتظر هؤلاء المحاصرين وجدوا أنفسهم نشطين بعد أن أكتمل وصول أغلب أفراد هذه العوائل إلى هذا المكان وبعد أن استطاعوا الحصول على وقت مناسب للراحة ، فشدوا الرحال بسرعة وتحركوا بحيوية وسط غابات كارة الكثيفة في هذه البقعة التي لم تتعرض للحرق بعد وعبر وعورة المنطقة التي مررنا بها كونها كانت غير مطروقة ولكن مرور هذه الأعداد الكبيرة من الناس مع حيواناتهم عبرها حولتها إلى طريق قابلة للتنقل السهل سيرا على الأقدام . لم تكن المسافة بين المكانين طويلة جدا ولم تكن تحتاج إلى الكثير من الوقت لو كانت الطريق إليها مفتوحة أو مطروقة من قبل و كون أعداد المحاصرين كانت كبيرة والطرق وعرة فإنها أخذت شيئا من الوقت .
كنت تجد في هذه المسيرة النشاط والحيوية لدى الشباب وهم يبذلون الكثير من الجهود لمساعدة الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى ويحملون عنهم أمتعتهم ، وفي نفس الوقت كان المرء يتملكه الحيرة وهو ينظر إلى هذه الحشود المحاصرة من البشر وهم يخوضون هذه الطريق للإتنقال إلى مكان أفضل وأكثر أمنا .. وكأنه كان يريد أن يقول هل سيكون هذا الأمان الذي يبحثون عنه متوفرا وقادرا على حماية أرواحهم إلى النهاية أم إنه مجرد هروب من مواجهة المصير المحتوم .. أم كان في ذلك نوعا من أنواع المقاومة .. رغم معرفة عواقبها .. كون العدو لم يترك لهذه الأعداد الكبيرة أي خيار غير تهديدها بالقضاء عليها ..؟ ، كما أوضحنا ذلك في البداية .
قبل الغروب صرنا نبحث في الموقع الجديد لنا عن أمكنة تساعدنا على إشعال النيران فيها لكي تقينا من البرد ومواقع سهلة على محاولة التخلص من أي هجوم طارئ . فعسكر الجميع في هذا الوادي الذي يقع في منطقة عالية من جبل كارة وخلف قرية ئه ركنى وهب المحاصرون لقطف أغصان أشجار البلوط كي يصنعوا منها أفرشة أمتاز المقاتلون البيشمه ركه بصناعتها في أوقات الراحة والنوم تحت ظلال الأشجار بعد تنفيذ عملياتهم العسكرية أو أنشطتهم السياسية ، والآن أصبح أهالي هذه القرية الكبيرة المختلطة المحاصرة يستخدمونها لقضاء أيامهم في قمم ووديان هذا الجبل ... ويصنعون مواقدا للنيران التي أضاءت في الليل هذا الوادي كما تضئ الأنوار الطبيعية أية مدينة حقيقية .. فلو كنت تريد أن تنسى أن جيشا كبيرا يحاصرك أو إنك معرض للهلاك أو كنت تريد أن تنسى ما كنت تشاهده من مواقف محزنه أثناء النهار أو تضع تصوراتك جانبا عن هذه الحملة الشرسة وعواقبها لكان المنظر جميلا .. ففي نوبة الحراسة في قمة جبلية تسيطر على هذا الوادي .. كنت تشاهد المكان واسعا وعبارة عن حوض دائري له مخارجه تبدو شبيهة بطرق تؤدي إلى أماكن أخرى ، وكان المكان والذي سرعان ما تحول إلى قرية فيها بشرا مشردون ، يبدو وكأنه جرى تصميمه وفق طرق هندسية تلائم طبيعة الجبل وأنشأت فيه هذه المدينة الجميلة وفق طراز متطور في هذه المنطقة الجبلية من كوردستان فكانت النيران المشتعلة من أجل أن تتدفأ هذه المجاميع البشرية بها وكي تستطيع النوم على هذا الدفء . كانت هذه النيران ومنظرها تأخذ المرء إلى عالم جميل طالما كان يحلم به حتى في هذا الحصار .. فكانت تتلألأ كمصابيح مدينة هادئة تبدو للمرء وكأنها مدينة غربية أوروبية يجري تجربة بناء مثيلاتها في كوردستان وإنها المدينة الأولى في هذا المكان ، وأن الأدخنة المتصاعدة من هذه النيران ما هي إلا وإنها تنبعث من مدا فئ بيوتها الهانئة ومراقصها وحاناتها المزدحمة بالناس وضجيجهم وقد كان المرء أمام هذه الأنوار وهو يتخيل ألحانا ويتمازج معها وكأنه يسمع حقيقة دقات الدفوف والمزامير وآلات الموسيقى المختلفة وأصوات الراقصين التي تستمر إلى صباحات هذه المدن ، ثم يستمر متابعة كل شئ حتى عندما يهم الناس ويتفرقون فرادا و مجاميع يتوجهون إلى بيوتهم بواسطة قطارات الأنفاق ووسائط النقل الأخرى للنوم طويلا استعدادا ليوم عمل أو دراسة أو ما إلى ذلك ، من دون أن يخدش صوت إطلاقة واحدة تسلل هذه الألحان إلى سماع المحتفلين أوأن يحدث انفجار ويعكر صفوة سهرتهم الجميلة ... غير أن البرد عندما كان يشتد وهو يتسلل هادئا إلى جسد المرء كان يتلذذ به ويتحمله ولكنه كان يقطع حلمه هذا ناقلا المرء إلى حلم أو عالم آخر وهو يقاوم البرد وكأنه في لقاء حبيبته ويقص لها كيف سيجعلها سعيدة في بلاد ليس فيها غير الورود والزهور والحان الجميلة .. أو أحدا من أفراد عائلته الذين غاب عنهم منذ سنوات طويلة تحت ضغط ملاحقة أجهزة أمن السلطة فيقص له كيف سيقضي مع مناضلي الحرية على نظام الظلم والقتل والسجون والتعذيب وينهي الملاحات ويوفر للناس المعدومين عيشا رغيدا .. ولكنه مضطرا كان يتذكر أن قوات هذه السلطة نفسها تفرض عليه الآن طوقا وإنه يعيش في حصار بسبب صوت انفجار قادم من محيط حلقة حصاره ولا يهم من أية قرية كانت في المنطقة ، فجميعها أصبحت تقع تحت سيطرة الجيش والجحوش وتتعرض إلى التفجير ورغم ذلك يستمر وهو يطلق العنان لتخيلاته الجميلة ولا يريد أن يبرحها رغم إدراكه إنها غير قابلة للتحقق في عراق يحكمه الوحوش والضواري وهم يحاصرونه في هذا الجبل .. ثم ما يلبث ويعي هذه الحقيقة التي يعيشها فتتحول بقية وقت نوبة حراسته إلى زمن يضغط عليه للتفكير بأشياء كثيرة .. بأصدقاء طفولته أو دراسته وما كان يفكر به من أجل مستقبله أو يتحول إلى التفكير بوضع خطط لإيجاد مخارج وإنقاذ هذه القوات وعوائل الأنصار الذين عاش معهم ظروفا بالغة الصعوبة وفي أوقات مختلفة .. كان بينهم أطفالا عوضوه بعده عن إخوته وأخواته الصغار أو ربما أبناءه وبناته وهو يلعب معهم في فسح مه رانى وتحت ظلال أشجار جوزها التي كانت تتعدى الـ 100 شجرة ، توفر بثمارها الوفيرة وجبات فطور تكفي لشتاء كامل ، يوزعها الخفر (الخدمة الرفاقية ) على الأنصار في كل صباح ولكل واحد منهم ربما عشر حبات منها مع كوب من الحليب بقرار يتخذه الرفيق أبو (حازم الإداري) وينفذ بصرامة .. أتذكر عندما حل الرفيق النصير (أبو خدر)* في المقر بعد عودته من مهمة ما وجد أن عائلة الشهيد (أبو فؤاد )* قد انتقلت للسكن في المقر في أحدى الغرف التابعة للتنظيم المحلي فذهب إلى ابنته الصغيرة (سورياز)* البالغة من العمر سنتين فقط وذلك لنيل صداقتها فوجده الرفيق النصير أبو سربست وقال له عبثا تحاول ذلك لأنها بالتأكيد تخاف من شورابك وثم فهي لا تقبل اللعب مع أحد غير ناظم أو أنصار محدودين جدا . فأجابه أبو خدر سأجرب حظي وأحاول ، وبعد فترة قصيرة عاد أبو سربست فوجدهما يلعبان معا فتعجب بسبب ذلك وكونه لم يستطيع الظفر بصداقتها بعد ما حاول كثيرا .. وكان بين هذه العوائل شابات وشباب يشاركوننا الأفراح ويحولونها إلى مهرجانات عائلية ... فكان هناك من يشارك في فرق الأنصار الغنائية وآخرين في الفرق المسرحية وكان بينهم شعراء صغار يمارسون هوايتهم في إلقاء قصائدهم في هذه الأفراح كعيد تأسيس الحزب و نوروز و رأس السنة الميلادية وغيرها من الأعياد التي أعتاد الأنصار أحياءها في كل سنة بفرح غامر واستعدادات مسبقة يشارك فيها الجميع على هيئة خلية نحل نشطة.. وأيضا كان بين هذه العوائل نساء وقفن كالأبطال خلف أزواجهن وأولادهن وأخوتهن لمواجهة الدكتاتورية .. عملن كل شيء من أجل المواصلة ، امتنعن أن يكن عوامل تثبيط لمعنويات الأنصار حتى في أحلك الظروف ناهيك عن ما تحملن من مصاعب حياتية من الجوع والبرد والسكن الغير لائق والعوز المادي وما إلى ذلك دون تذمر.
ولكنك لو كنت تجرب التجوال بين هذه التجمعات البشرية في نفس تلك الليلة لوجدت حقيقة أخرى تعبر عن مدى وحشية نظام أجبر هؤلاء الناس على هذه المعانات فالرجال كانوا يدفعون بالمزيد من الحطب في نيران أشعلوها كوسيلة للحفاظ على حياة أطفالهم ونساءهم من برد كارة ، ورغم ذلك فإنها لم تكن تف بالغرض في الغالب لأن النوم أمام مواقد نيران الحطب في العراء لن يكون سهلا كون المرء يتعرض في احد جنبيه إلى الحرارة الشديدة وفي الجنب الآخر إلى البرد الشديد لأنه لا يوجد ما يتدثر به غير ملابسه التي يرتديها ولذلك يستمر في التقلب إلى الصباح دون أن يشبع نوما وكان الوضع مع الأطفال صعب للغاية فأما تركهم ينامون بين موقدين وأما على النساء احتضانهم وخصوصا الرضع منهم للصباح ففي الحالة الأولى كانوا يتعرضون إلى الحروق وملابسهم كانت تتحول إلى قطع أسمال بالية أما في الحالة الثانية فكانوا يستمرون بالبكاء بردا لأن هذه النيران لم تكن قادرة على الوصول لكل أجسامهم وصدور أمهاتهم لم تكن تكفي لاحتضانهم جميعا .. ولذا غالبا ما كانت كل إمرأة تردد مع بكاءها المر جملا حزينة غير مترابطة تعبر بها عن قلقها إزاء الخطر الذي يداهم الجميع في هذه البقعة التي لا يعرها أحدا في هذه الدنيا أي اهتمام .. نم يا ولدي ها أشعلنا النيران .. وسيتدفأ جسدك بعد قليل .. كنت أود أن أموت ولا أراك ترتجف بردا .. يا ولدي الموت في قمم كارة أهون من الموت بغازات جيش صدام أو سجونه .. لو متنا هنا سنكون قريبين لقريتنا وسيكون هناك من يدفننا في مقابر أهلنا وبجوار موتانا ..أما لو متنا في مكان آخر من سيعثر على بقايانا ..؟ وسوف لن يكون لنا قبورا ..!!!
كان الأطفال يبكون أيها الناس لحد الإغماء .. فضلا عن البرد كانوا جياعا .. لم يصمد خبزهم القليل كثيرا .. تناولوا لحما لوحده .. أصابوا بالإسهال .. لا يشربون الماء إلا قليلا أو قطرات منه لأنه غير متوفر ومصادره محتلة من قبل الجحوش .. النساء ينمن قليلا وينتحبن كثيرا .. يتحملن الجوع والعطش ومعانات أطفالهن .. أينما ذهبت نحيب النساء يلاحقك .. صرخات الأطفال بردا تلاحقك .. حتى الكبار عيونهم تمتلئ دموعا .. لم يعودوا يخجلون في الإفصاح عن حزنهم بالبكاء .. فإذا كان البعض منهم يخبأ رأسه بين ذراعيه ويطلق العنان لبكاء مر ، فإن الكثير منهم بكى بصوت عالي وبمرارة شديدة .. يلعنون عالم المصالح .. ذلك العالم القاسي الذي استطاع بجدارة السكوت عن كل ما يجري في هذا الجبل .. فخمسة عشرة ألف نسمة محاصرون تطوقهم وحدات من الهمج ولا أحدا يتكلم .. خمسة عشرة ألف نسمة يتضرعون جوعا ولا أحدا يتكلم .. وقواهم تخور عطشا وبردا ومرضا ولا أحد يتكلم .. أية ضمائر تحكم الأرض ...؟ كيف تستطيع الصمود أمام كل هذا العذاب وهذه المعانات البشرية .. ؟ هل قال أحدا في كل هذا العالم كلمة واحدة عن هؤلاء الناس .. ؟ ربما كان كينشر وزير خارجية ألمانيا الغربية وحيدا حينما تحرك وجدانه ورفض هذا الظلم ، فتيمنا به استخدم أحد أنصارنا اسمه ونبه الجميع على ضرورة مناداته بأبو كينشر ظل يحب هذا الاسم لسنوات طويلة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(جه م جال وجه م شيرتى)* قريتان مسيحيتان تقعان بين منطقة نهلة وقرية كافيا وكانتا بمثابة محطات استراحة للبيشمه ركه وكان أهالي القريتان يقدمون خدمات كبيرة لهم .
(أبو خدر)* وهو غني عن التعريف كل الأنصار يعرفونه وكذلك معروف على مستوى جماهير المناطق التي كنا نعمل ضمنها وكان من الأنصار الأشداء وعلى قدر كبير من الانضباط ، ويتميز بعلاقات واسعة مع رفاقه والجماهير وكانت مواقفه ثابتة إزاء مختلف القضايا ولازال يحتفظ بالكثير من الحيوية في خوض نقاشات حامية حول مختلف المواضيع .
(أبو فؤاد )* كان مسئول محلية دهوك للحزب استشهد في 5 حزيران عام 1987 اثر قصف سرب من طائرات النظام البائد مقر قاطع به هدينان بالأسلحة الكيماوية في كه لي زيوة قرب ناحية كاني ماسى في منطقة العمادية .
(سورياز)* أبنة الشهيد ابو فؤاد ولدت في قرية آطوش وسميت تيمنا بالاسم الكوردي لنبات حمضي ينمو في جبل كارة والمناطق الباردة .

محطات من أنفال به هدينان - المحطة الثامنة


محطات من أنفال به هدينان

ناظم ختاري
(المحطة الثامنة )
أنصار يتحدثون عن العوائل وقرار الانسحاب
تقدمنا وسط هذه الأعداد الهائلة من البشر والذين ينتشرون بين صخور جبل كارة و قطوعه وأشجاره نحو موقع تواجد رفاقنا والعويل لا يتوقف وأصوات الإنفجارات و اطلاقات البنادق لا تتوقف هي الأخرى ، فأصوات الإنفجارات كانت إشارة على أن هذه القوات دمرت قرية خلفتها وراءها بمواد متفجرة وأصوات اطلاقات الأسلحة الخفيفة كانت إشارة دخول واحتلال طلائع هذه القوات لقرية جديدة وعادة ما كانت هذه الطلائع من وحدات الجحوش المرتزقة وهم يزفون بشرى جريمتهم أللأخلاقية لبقية قواتهم الزاحفة وراءهم نحو هدفهم النهائي وهو إحكام الحصار التام حول كارة وذلك بسبب معرفتهم بوجود هذا العدد الهائل من سكان هذه القرى مع البيشمه ركه والأنصار في حلقة حصارهم في هذا الجبل ، وأشارت التوقعات إلى أن عدد المحاصرين كان يزيد على ألـ ( 15) ألف إنسان اعتمادا على احتساب عدد القرى التي كان ينتمي إليها المحاصرون وعدد نفوس سكانها التقريبي وغالبية هذه القرى كانت قرى مناطق عملنا ولذلك كنا نلتقي بأعداد كبيرة من المعارف من مواطنيها بين كل دقيقة وأخرى وأثناءها يتولد عند المرء شعور غريب وهو يقف أمام هؤلاء الناس لا حول ولا قوة له ، ويردد في داخله ما ذنب هؤلاء الأبرياء وهم يتعرضون إلى كل هذه المصائب وقد تكون المصيبة الحالية أكبر كارثة في تاريخهم..؟ لم نكن نستطيع أن نفعل شيئا من أجل هؤلاء كلنا كنا نتعرض لنفس المستوى من المخاطر على الأقل في بادئ الأمر حتى وإن تغيرت المسألة بعد ذلك .
في الطريق إلى حيث رفاقنا وعوائل أنصارنا رأينا عشرات المواقف المحزنة ولكن التفكير بما سيحصل لهؤلاء الناس بشكل جماعي وهم في هذا الحصار سيطر على أي شئ آخر.. فهل يستطيع المرء أن يتخيل من أين سيحصل هؤلاء البشر على طعامهم وشرابهم وهم معلقين في قمم هذا الجبل ووديانه ..؟ هل ستستمر هذه القصة أم ستكون لها نهاية ..؟ وكم ستستمر حتى تبلغ نهايتها في ظل الجوع والبرد والخوف والأمراض ..؟ وكيف ستكون هذه النهاية وسط هذه الكم الهائل من القوات المهاجمة والمسلحة بأخطر أنواع الأسلحة ...؟ لا يمكن للمرء أن يتخيل غير نهاية محزنة ومأساوية لهذه الآلاف من البشر . فلم يكن بامكانه أن يتخيل غير ذلك وضربة مقر أنصار حزبنا في زى شين وأحداث حلبجة والضربات الكيماوية في المناطق الأخرى لازالت طرية في الأذهان وكان عدد ضحايا مدينة حلبجة لوحدها قريبا إلى عدد المحاصرين في هذا الجبل ،أي 5000آلاف شهيد و7000 آلاف جريح ..؟ فهل ستخجل السلطة لو أقدمت على مثل الجريمة مرة أخرى وقتلت هذه الآلاف المحاصرة ..؟ ومن سيردعها عن ذلك إذا أرادت ..؟ فكل المجتمع الدولي أصبح إلى جانبها وتمتنع الاعتراف بحقيقة كون النظام أستخدم هذه الأسلحة ..! ولم يكن لنا أصدقاء في هذه المحنة ، نعم إنه استخدم الأسلحة الكيماوية ..أستخدم غازات سامة لم نكن نتداول أسماءها من قبل كغاز الخردل أو السيانيد أو الماء الأصفر وما إلى ذلك ، وما بالك وإنها أصبحت تستخدم على نطاق واسع ضد سكان كوردستان كأسلحة فتاكة وأن هذه الآلاف ستموت لا محالة بواسطتها وبطريقة بشعة ...!! اعتقد أن كل واحدا منا دارت في مخيلته مثل هذه الأسئلة والكثير غيرها ونحن نلتقي الناس والمعارف وكان الحزن المرسوم على وجوههم يؤكد بشكل لا يقبل التأويل على بشاعة ما كان ينتظرهم جراء كل هذا .
وكما كنت تجد المحاصرين من سكان هذه القرى يحملون هموما لا تستطيع كل الدنيا تحملها ،هكذا وجدنا أنصارنا وعوائلنا أيضا يحملون حصتهم من هذه الهموم والحيرة في نفس الوقت بعد أن ألتقيناهم في مواقع متفرقة ضمن هذا المكان تحسبا لأي طارئ . فرغم شدة بأسهم قبل هذا الوقت كنت تجدهم في حيرة لا يحسد عليها ... أصبحت كل الطرق مغلقة بوجوهنا وها هي العوائل تعيقنا ... لا نستطيع أن نقدم لهم شيئا بعد الآن ... ولا نستطيع أن نجد حلا لهم في ظل هذا الحصار ... ونحن الآن هنا تأخر كل شئ ...علينا ان نقبل بمصيرنا المحتوم ... فلان يتحمل مسؤولية تأخير العوائل ... هذه عوائلنا سنموت من أجلها وندافع عنها من أجل خلاصهم ... نحن لو كنا لوحدنا لاستطعنا أن نجد لنا طريقا تنقذنا ... ولكن المشكلة هي مشكلة العوائل ... لماذا تأخرتم في عملية ترحيلنا....؟ كان هناك متسع من الوقت أن نصل إلى الحدود قبل نقع في هذا الفخ ولكن الرفاق أهملوا ذلك ... صحيح كان هناك الوقت الكافي لنقل العوائل إلى الجهة الثانية ولكن كان من شأن ذلك إثارة بلبلة بين الناس في المنطقة وهذا ما لم نكن نرغب به ...كان من الضروري اتخاذ الإجراءات اللازمة بصدد إبعاد العوائل إلى مناطق آمنة بسبب شراسة النظام ودمويته التي لم تفرق بين طفل ومقاتل..هكذا تكلم الجميع بين مستاء وبين من يقول أن الأحداث كانت سريعة لم تترك لنا فرصة جيدة للتفكير واتخاذ ما يلزم لتجنب مثل هذا الوضع وعموما كانت المواقف غير واضحة وأصبحنا في وضع صعب .
ولأجل التوصل إلى حقيقة الوضع ارتأيت ضرورة تدوين إجابات بعض الرفاق الأنصار عن تلك الأحداث كي تصبح الصورة أكثر وضوحا وهم يجيبون على سؤالين مترابطين في الواقع وهما – لماذا تأخر اتخاذ قرار بنقل العوائل إلى مناطق آمنة علما كان بإمكان الرفاق اتخاذه بهذا الشأن حسبما عرفت هل هذا صحيح ..؟ - ما هو تصوركم حول مجمل الوضع لماذا تأخر الانسحاب إذا كان لابد منه دون مقاومة ..؟ فكان من شأن الإسراع به تجنب كل تلك الخسائر والمصاعب ..!
أبو سربست (صبحي خضر حجو) كان حينها عضوا في اللجنة القيادية الجديدة للمحلية ، فقد خمسة من أفراد عائلته ضمن هذه الحملة فتحدث قائلا وهو يجيب على السؤالين أعلاه .
لا يمكن الإجابة على هذا السؤال بإجابة واحدة ، إذ كانت هنالك عدة أسباب ضمن تلك الظروف التي كان فيها الوضع متشابكا وضبابيا إلى حد كبير وكان مفتوحا على جميع الاحتمالات ، ولكن في كل الأحوال كانت الآفاق قاتمة والآمال تنعدم تدريجيا أمام الأنصار وأهالي المنطقة . أما الأسباب فكانت برأيّ كالتالي :
1 ـ لم يصلنا ( منطقة بهدينان ) توجيه قيادة الحزب الصادر ( حسب ما عرف فيما بعد) في شهر شباط 1988 . والذي طلب إبعاد العوائل إلى المناطق الآمنة . وإذا كان قد وصل فإننا لم نبلغ به من قبل المسئول الأول آنذاك أبو سالار ( لبيد عباوي ) ، أو من قبل قاطع بهدينان نفسه ، بدلالة إن الفوج الثالث أيضا لم يتخذ التدابير الاحتياطية لرفاقه و عوائلهم إلا قبل إحكام سيطرة الجيش والجحوش على مناطقهم بيوم أو اقل من ذلك ، ورغم أنهم كانوا قريبين جدا من الحدود ولكن بصعوبة بالغة تمكن الأنصار وعوائهم مع مجاميع من الأهالي من عبور الشارع الرئيسي بين ( مجمع باطوفا ) و(كاني ماسي )، بحيث تم حصر المئات من الأهالي في ( كلي بازي) وجرى الحديث عن حصول مجزرة لهم على يد القوات العراقية .

2 ـ تأخرت اجتماعات القيادة في منطقة خواكورك ، وانتظرنا التغييرات المرتقبة ، وتأخر وصول الرفاق ( ممثلي القاطع والأفواج ) الذين كانوا مشاركين فيها حتى نهاية تموز أو بداية آب من نفس العام . وبعد وصول ابو سالار وعقد الاجتماعات للنظر في تطبيق القرارات المتخذة ، دعي إلى اجتماع بحضور الأنصار أصحاب العوائل ودعي فيه إلى إبعاد العوائل من المقر وأطرافه إلى مناطق أخرى على الأقل بضعة كيلو مترات . ولم يقتنع في حينها أي من أصحاب العوائل بما فيهم نحن أيضا . إذ عبرّ الجميع عن قناعتهم بعدم جدوى هذا الحل ، وإذا ما حصل الهجوم فانه سيشمل المنطقة برمتها ، ولن يقتصر على المقر فحسب . ولكن سقط بيد الأنصار بسبب عدم وجود البديل الجاهز من الحلول الأخرى على المستوى الجماعي على الأقل .

3 ـ بذلنا أنا والرفيق حسين حجو كنجي ( ابو عمشة ) محاولات ومن وقت مبكر مع أبو سالار المسئول الأول للمحلية ، و اقترحنا عليه إرسال العوائل إلى سوريا عبر طريق الخط السري للحزب ( التنظيم الداخلي ) . وضغطنا عليه كثيرا ، وتعذر بان عليه أن يستشير الرفيق المعني بالطريق السري ويسأله عن مدى توفر الإمكانية لنجاح هذه العملية ، فان أجاب ذلك الرفيق بالإيجاب ستتم الموافقة وإذا كان الجواب سلبيا ، لن نستطيع الإقدام على مثل هذه "المغامرة" .
وبعد فترة وجيزة اخبرنا أبو سالار: بان جواب الرفيق المعني كان سلبيا وانه لا توجد إمكانية لمثل هكذا عمل !
وفيما بعد ، وبعد الانسحاب إلى سوريا ، سألنا ذلك الرفيق المعني والمسئول عن ذلك الخط الحزبي السري ، سألناه حول الموضوع ، وأجابنا : نعم ، سألني أبو سالار وكان جوابي له ، انه توجد إمكانية جيدة لنقل العوائل كلها في حالة موافقة الحزب !! وقد شكّل جوابه لنا صدمة كبيرة جداً !! إذ كيف يمكن لأبو سالار أن لا يكون صادقا معنا لهذه الدرجة ويخون الأمانة الحزبية ، ويخدع من منحوه الثقة الحزبية ، وكانوا معه في خنادق الموت وحموه طيلة تلك السنوات !! ، ويكون بذلك أبو سالار قد تحمل مسؤولية أخلاقية مباشرة لفقدان تلك العوائل...

4 ـ يظهر إن جميع الأحزاب وقواتها البيشمه ركه لم تضع التصور الصحيح أو التوقعات الصائبة لنوايا النظام وطبيعة عملياته القادمة ! فقد اعتمدت أسوء تلك التوقعات على إن النظام ربما سيشن هجوما اكبر من ذلك الذي كان قد شنه قبل اشهر من ذلك الوقت في (5 كانون الثاني من 1988) . حيث تم التصدي لذلك الهجوم بضعة أيام ، ونقلت العوائل أثناءها إلى مناطق خلفية أكثر أمانا ( كلي كافيا) . وبعد انسحاب القوات الحكومية عاد الأنصار و العوائل وأهالي القرى إلى أماكن سكناهم السابقة أو في القرى والأماكن البديلة في الوديان وسفوح الجبال . ولم تتوصل توقعاتنا ( جميع الأحزاب ) إلى احتمال أن يشن النظام هجوما كاسحا كالذي حدث مستخدما فيه الأسلحة الكيماوية أو الأسلحة المحرمة دولياً !! . بدلالة إن آخر لقاء بين القادة العسكريين للأحزاب المتواجدة في المنطقة من أحزاب الجبهة الكوردستانية قبل اقل من أسبوعين فقط من الهجوم ، كان قد تم فيه الاتفاق على تشكيل المفارز المشتركة وطرق وأساليب ووسائل التصدي للهجمات المحتملة والمتوقعة !.

5 ـ كما أن قيادة لجنة محلية الشيخان للحزب الديمقراطي الكوردستاني ( الحليف في الجبهة الكوردستانية ) أنذلك ، لعبت معنا لعبة .. لا نعرف ماذا نسميها ؟! ولكن في كل الأحوال كان تصرفا سلبيا وغريبا عن الروح النضالية المشتركة والعلاقات المعمدة بالدم في سوح النضال .. إذ اخفوا عنا القرار الصادر عن السيد مسعود البارزاني والقاضي بالانسحاب الشامل للبيشمه ركة والأهالي إلى مناطق آمنة خارج الحدود . وتمثلت الغرابة ، بأننا بعد أن لاحظنا في أيام 24. 25 ، و26 آب تصرفات أهالي القرى وارتباكهم ومحاولات الرحيل الجماعي ، أرسلنا وفداً بقيادة المرحوم أبو فارس ثلاث مرات في يوم واحد إلى مقرهم في ( سي ده را ) نسألهم فيها عن التطورات الجديدة وفيما إذا كانت هنالك أية أخبار استثنائية من القيادة ونذكرّهم بحال الأهالي وترحالهم ، فكانت إجاباتهم بأنهم لا يعرفون شيئا وليس هنالك من جديد ! وتكرر الأمر لليوم الثاني وكانت إجاباتهم هي نفسها !. وهم بذلك فوتوا علينا فرصة يومين ، كان بالإمكان خلالها إن نعبر النهر باتجاه الحدود الإيرانية والتركية ، بدليل إننا بعد أن رحلنا فيما بعد ، بقيت لنا مسيرة يوم واحد وكنا نعبر ذلك النهر ونصبح خارج سيطرة القوات المهاجمة . ولكننا حوصرنا ولم نستطع مواصلة المسير.
وقد كان وقع هذا التصرف على الأنصار و عوائلهم شديداً وبالغ القسوة والتأثير . وقد طرحته على شكل تأنيب قاسي على المرحوم ( علي حسن خنسي) الذي كان هو المسئول الأول في محلية الشيخان آنذاك ، عندما التقيته في دمشق بعد الأحداث بعام . وعبّر عن أسفه ولم يستطع أن يعطي تفسيراً مقبولا لذلك التصرف .

6 ـ الأمانة والموضوعية تقتضي عند رواية هذه الأحداث ، أن يكون المرء صريحا مع نفسه والآخرين ، فقد كانت لما تسمى قضية الالتزام الحزبي الصارم والالتزام بالأصول وعدم تخطي المراجع و... الخ من القواعد والتعليمات الحزبية التي تربينا عليها نحن الكوادر ولأكثر من ثلاثة عقود ، الذين كنا نعيش فصول هذه القضية المأساة ( أنا والرفاق: أبو عمشة وتوفيق وابو داؤود وآخرين ) إضافة إلى إنها كانت تشكل لنا مسألة أخلاقية وجزء من تقاليدنا الاجتماعية الشخصية ، وان كانت هذه القضية ( صدق الالتزام ) في العمل الحزبي وفي مختلف المراحل لها إيجابياتها ، ولكنها في الحالة التي نحن بصددها كانت لها نتائج سلبية كبيرة علينا وعلى عوائلنا ، ولو لم يكن التزامنا بهذه الدرجة ربما اكرر ربما كانت النتائج ستكون بشكل آخر! . فمثلاً ، كان بامكاننا تجاوز هذه العادة في تلك الظروف ونسأل الرفيق المختص بالطريق الحزبي السري إلى (سوريا ) ، إذ كنا نعرفه ونحتفظ معه بعلاقات متميزة ، وتوفرت الفرصة لذلك ، وكنا بذلك نكشف خداع ذلك المسئول ، وربما كنا نتخذ قراراً في صالح تسفير تلك العوائل .. وان ليس بالإمكان إعطاء ضمانات أكيدة حول نجاح الخطة من عدمها في تلك الظروف الصعبة. ومثال آخر.. في تلك الظروف كانت بالتأكيد تتوفر إمكانيات عديدة ومتنوعة للبعض إذا لم اقل كل هؤلاء الكوادر المذكورة آنفاً، لو استخدموها بشكل فردي لأمكنهم إنقاذ عوائلهم ! ، ولكنهم انطلاقاً من تلك الروح الحزبية والمثل والأخلاق الاجتماعية التي تربوا عليها وتشربت بها نفوسهم ، منعتهم من التفكير كل بذاته أو بعائلته فقط ، وارتضوا أن يكون مصير الجميع واحداً ، مع العلم إن كل نصير ترك له الخيار بين تسليم العائلة ولكن بعد العفو أو التصرف بغير ذلك وعلى مسؤوليته الشخصية ..

وفي كل الأحوال لابد من تبيان حقائق أخرى أيضا :
الأولى : إننا طيلة فترة الحصار أرسلنا المفارز الكثيرة في مختلف الاتجاهات من اجل الكشف عن أي طريق أو منفذ يمكن أن نسلكه للوصول للحدود الإيرانية أو التركية ولكن تلك المحاولات باءت بالفشل . إذ فقدنا اثر بعض المفارز ، وبعض أفراد مفارز أخرى فقدوا اثر بعضهم البعض بعد تعرضهم إلى كمائن القوات الحكومية واستشهد على أثرها البعض منهم .
الثانية : إننا كنا محاصرين ومعنا آلاف العوائل في ( جبل كارا ) كما أشار الأخ ناظم ختاري ، وكان الحصار محكماً وفي العديد من الأحوال كنا نغامر ونذهب إلى الينابيع وعيون المياه من اجل ملأ ما يتيسر لنا من الأواني للعوائل والأطفال بشكل خاص ، إذ كانت القوات الحكومية هي التي تسيطر على تلك الينابيع ، وكانت تلك القوات تعلم جيدا بوجود ذلك الكم الهائل من البيشمه ركة و العوائل ، ولهذا أيضا كنا نتوقع في كل لحظة أن يصار إلى شن الهجوم الكاسح علينا أو قصفنا بالمدافع والراجمات أو قصفنا بالطائرات الحربية والسمتية إذ كانت دائمة التحليق فوقنا .
الثالثة : كان الاعتقاد سائداً آنذاك وبشكل خاص بعد العفو ( 6/ ايلول ) ، بأن أقصى ما يمكن أن يتخذه النظام من إجراءات ضد العوائل التي تسلم نفسها بعد العفو ، هو انه سيعمد إلى إسكانها في مجمعات في وسط وجنوب العراق ، أو ربما في كوردستان أيضا ولكن كاحتمال ضعيف .. وهذا ما جرى فعلاً ، باستثناء عوائلنا وعوائل أخرى من قرى المنطقة ، ولكن الأغلبية الساحقة أسكنت في مجمعات قسرية في كوردستان . وفي الانتفاضة عادت كل تلك العوائل إلى المدن أولا ومن ثم قراها وأماكن سكنها السابقة بعد أعمارها طبعاً .
توفيق ( خيري درمان) الذي فقد عائلته هو الآخر والمتكونة من 6 أفراد إضافة إلى أكثر من 25 فردا من أقاربه ضمن هذه الحملة و كان حينذاك في موقع المسئول العسكري الأول ضمن التشكيلة الجديدة بعد دمج الأنصار والتنظيم المحلي وأجاب عن هذين السؤالين قائلا في الحقيقية جاء التفكير بضرورة معالجة وضع العوائل بعد هجوم السلطة على مناطقنا في 5-1-1987 على محورين الأول محور كانيكا والثاني محور سوارى وسبيندارة ، استطاعت خلالها قوات النظام عبر محور كانيكا احتلال مقراتنا وحرقها إضافة إلى حرق بعض البيوت العائدة لأفراد قوات الأنصار والبيشمه ركه في القرى التي كانوا يسكنون فيها بعد أن اضطرت هذه العوائل الانسحاب معنا في هذا الشتاء القاسي إلى منطقة كافيا حيث كان يوجد فيها مقر قاطع أربيل لأنصارنا ، علما هذه المرة لم تتعرض هذه القوات لسكان المنطقة وقراهم ، عندها شعرنا بمدى تأثير وجود العوائل في مناطق قد تصبح مناطق قتال دائمة على نشاط الأنصار فكان لابد لنا البحث عن حل بالاتفاق مع قيادة الحزب وخصوصا إنها أصبحت تتعرض إلى مخاطر جدية وأن سكان القرى التي تسكنها هذه العوائل أصبحوا يشعرون بعواقب تتهددهم في حالة استمرار بقاءها ضمن قراهم ولكننا تأخرنا في إيجاد حل والبحث بشأن ذلك ولم تطرح المسألة على قيادة الحزب بشكل مباشر إلا عند سفري إلى إيران لغرض العلاج في الشهر الرابع من عام 1988 ، حينها كلفت من قبل قيادة الفوج لمفاتحة قيادة الحزب حول هذه المسألة وضرورة إيجاد حل لها وفعلا حصل هذا اللقاء مع كل من الرفيقين أبو سعود ( عزيز محمد ) كان وقتها سكرتير اللجنة المركزية للحزب والرفيق أبو عامل كان عضوا في المكتب السياسي للحزب ومسئول المكتب العسكري المركزي لقوات أنصارنا و تبين أن الرفيقين كانا يتفهمان القضية وتركا صلاحية اتخاذ قرار بشأن العوائل على عاتقنا مع إبداء ملاحظة حول ضرورة عدم تأثير ذلك على نشاط الأنصار أصحاب العوائل .
بعد عودتي من إيران ووصولي إلى مه رانى والقول لتوفيق كان قد أتخذ قرار من قبل قيادة الحزب بشأن دمج الأنصار والتنظيم المحلي ، وتطلب ذلك وقتا ليس بقصير لتحقيق هيئات جديدة ، وفي أول اجتماع للهيئة الجديدة طرحت موقف قيادة الحزب بشأن العوائل ودفعت باتجاه اتخاذ قرار حول العوائل ولكن نتائج مناقشاتنا أوصلتنا إلى الاختلاف حول الأمر وخصوصا ما يتعلق بالأنصار أصحاب العوائل ومن يرافق العوائل فأكد بعض الرفاق العراقيل التي تعترض تنفيذ قرار ما بهذا الشأن والبعض الآخر حرص على ضرورة تنظيم تواجد هؤلاء الأنصار مع عوائلهم من خلال تنظيم أجازاتهم ، وأدى هذا الاختلاف في الرأي إلى تأجيل دراسة هذا الأمر إلى ما بعد معالجة كل ما يرتبط بعملية الدمج والانتهاء من تشكيل هيئاتنا العسكرية والحزبية ، وثم إشراك العوائل في عملية المناقشة للوصول إلى قرار ملائم . و كان هذا السبب الأول الذي حال دون معالجة وضع العوائل في وقت مبكر ، وأما السبب الثاني فله قدر كبير من الأهمية أيضا ، حيث لم نكن نحن ولا محلية الشيخان لحدك ولا قياداتنا نتوقع حجم الهجوم القادم ونوايا السلطة ، كانت تصوراتنا لا تخرج من إطار كون أي هجوم قادم لا يتعدى أهدافا محددة ولن يكون شاملا أو يكون بمقدوره إزاحة قواتنا من المنطقة بشكل نهائي مما أدى ذلك إلى إهمال اتخاذ الإجراءات اللازمة للتصدي لهذا الهجوم الشامل . وواصل الرفيق حديثه وكما تعلم كنا نتصدى للهجمات السابقة بإمكانيات كبيرة ونواصل المقاومة لأيام كثيرة كما حصل أثناء هجوم كانيكا وهكذا كان الاعتقاد السائد أن الهجوم القادم سيكون بهذا الحجم وعند ذلك لدينا من الإمكانيات لمقاومته والتصدي له من حيث السلاح وعدد المقاتلين لحزبينا علاوة على قوات المقاومة الشعبية.
ولكنه هذه المرة وردتنا معلومات من تنظيماتنا في الداخل تؤكد أن قوات النظام تنوي شن هجوم واسع على مختلف مناطق كوردستان كان هذا قبل أسبوعين من الحدث وأبلغنا قيادة القاطع بهذه المعلومات ووجه الرفاق بضرورة التحري عن المزيد من المعلومات ونوايا السلطة و قبل أسبوع واحد من الهجوم وصلتنا المزيد من المعلومات حول تحشيدات عسكرية لقوات النظام في مختلف المناطق ، وخلال هذه الفترة طلبنا من قيادة لجنة الشيخان لحدك عقد اجتماع لتدارس الأوضاع على ضوء المعلومات التي تردنا والتحشيدات العسكرية الهائلة وكنت من بين الذين حضروا الاجتماع من جانبنا والسيد على خنسي من جانب حدك وتداولنا الأمر كثيرا وأكد الرفاق في حدك على استعدادهم للمقاومة وأشاروا إلى إمكانية ذلك ووجود أسلحة جيدة وأعداد كبيرة من المقاتلين والبيشمه ركه والمقاومة الشعبية واستشهدوا بمقاومة قواتنا في خواكورك والتي استمرت لما يقارب الشهرين من المعارك الضارية ، وقالوا على الأقل نستطيع مقاومة العدو لشهر واحد وهكذا جرى الاتفاق في هذا الاجتماع على المسائل التالية .
- تشكيل مفرزة مشتركة وإرسالها إلى قرى المنطقة وذلك لحث الناس على المقاومة وجمع المزيد من المعلومات والتصدي للحرب النفسية للعدو التي بدأ يشنها عملاءه بشكل نشط جدا في المنطقة وهي كانت تثير الهلع في صفوف الجماهير.
- أن تكون هنالك اتصالات مستمرة بين الطرفين للمزيد من التنسيق حول المستجدات في الوضع العسكري .
- الاستعداد للمقاومة وإعداد القوات و تهيأة مستلزماتها .
وبعد عودتنا إلى المقر اجتمعت اللجنة القيادية الجديدة لدراسة الوضع من كل الجوانب والقرارات التي توصلنا إليها في لجنة جك .واتخذنا الإجراءات التالية - أعددنا الأنصار للمشاركة في المفرزة المشتركة - واتخذنا قرارا بشأن معالجة الأسلحة والمؤن الزائدة عن الحاجة وإخفاءها للضرورة - ودرسنا وضع العوائل ، فطرح السؤال التالي بشأنهم . هل يتم اتخاذ قرار تتوجه العوائل بموجبه إلى المناطق الحدودية ..؟ علما كان الوضع لازال هادئا في مناطقنا على الأقل مع تأكيدنا على ضرورة إنقاذ العوائل توقفنا عند نقطتين أثارهما أبو سالار ( المسئول الأول للجنة ) ، 1- كيف سيكون موقف الجماهير لو انسحبت عوائلنا نحو الحدود.. ألا يثير ذلك الكثير من القلق لديها ويحدث بلبلة بين صفوفها وخصوصا أن الناس تعتمد كثيرا على مواقفنا ..؟؟ 2- من يرافق العوائل في انسحابهم وخصوصا أن الغالبية من أصحابها من الأنصار الذين يجري الاعتماد عليهم في مثل هذه الحالات الحرجة بحكم معرفتهم الجيدة بطبيعة المنطقة..؟ .
فإذا كانت هنالك إمكانية معالجة النقطة الثانية من خلال الاستعاضة بالأنصار كبار السن والغير فاعلين منهم لمرافقة العوائل فإننا لم نجد مخرجا نبرر به موقفنا أمام الجماهير، في حالة الانسحاب في ظل هذه الظروف. ولهذا جرى اتخاذ قرار بضرورة التريث وما ستؤول إليه الأحداث.
وفي الواقع كانت هنالك ضرورة لدراسة قضيتين أساسيتين ترتبطان بمسألة العوائل ووضعنا بشكل عام .
المسألة الأولى – كانت رؤيتنا في الاجتماع المنعقد بيننا وبين رفاق حدك وفي اجتماعاتنا الأخرى قاصرة وكانت مقارنة مناطقنا بمنطقة خواكورك مقارنة غير موفقة أوقعتنا في ورطة حقيقية للأسباب التالية 1- كانت هذه المناطق أي خواكورك تقع مباشرة على الحدود مع إيران ، وهذا جعل من الصعوبة بمكان على قوات النظام تطويقها ومحاصرتها وكذلك كان يسهل على قواتنا الدخول إلى الأراضي الإيرانية متى ما شعروا بعدم القدرة على مواصلة القتال 2- لم تكن قوات الأنصار والبيشمه ركه هناك في خواكورك مقيدة بوجود عوائل لمقاتليها ، وهذا ما وفر لها حرية الحركة والخفة اللازمة وسهولة مناورة العدو 3- والجانب الأكثر أهمية هنا هو مشاركة القيادات في العمليات الحربية المباشرة من خلال التصدي للهجمات وهذا ما أدى إلى تعزيز معنويات المقاتلين وقدرتهم على مقاومة العدو مثل هذه الفترة الطويلة والتي قاربت الشهرين.
المسألة الثانية - أرى كان لزاما علينا كقيادة محلية نينوى وقيادات الأنصار الأخرى وعلى أعلى المستويات أن نلجأ لاتخاذ قرار بشأن العوائل وخصوصا بعد ورود المعلومات الدقيقة من منظماتنا حول استعدادات العدو وتحشيداته العسكرية لشن هجوم واسع على مختلف مناطق كوردستان يهدف من وراءه تصفية الوجود المسلح هناك بعد أن تستطيع إزاحة سكان الريف من قراهم . ففي الواقع إن المعلومات التي كانت تصلنا كانت تفصيلية وتؤكد على حجم قوات النظام وتحشدا ته في كل منطقة ونواياه الحقيقية وهذا كان يعني أن النظام كان جادا وعبر كل إمكانياته من أجل تحقيق أهدافه المرسومة . وإلى جانب هذا كان من الضروري أن نأخذ وجودنا في العمق بنظر الاعتبار فكانت إمكانية تطويق ومحاصرة مناطقنا ممكنة بعكس خواكورك بحكم كونها مقطوعة ووجود مناطق واسعة ومدن عديدة تفصل بيننا وبين الحدود مع تركيا تسيطر عليها قوات النظام العسكرية وتديرها مؤسساته الحكومية وكانت تتوفر فيها شبكة من الطرق والمواصلات تساهم إلى حد كبير على تسهيل حركة العدو بينما قواتنا كانت دائما معرضة للوقوع في الحصار .
وهذا ما استغلته قوات النظام في الوقت الذي كان ذلك غائبا عن بالنا ولهذا فإنها بادرت منذ البداية على تشديد حصارها لمناطقنا عبر السيطرة على المنافذ الحدودية وثم التوجه لتضيق الحصار على مقراتنا والقرى القريبة منها ، وهكذا بدا عملاء النظام بحربهم النفسية من خلال إشاعة معلومات كان الهدف منها انهيار معنويات الجماهير و إحباط أية محاولة للمقاومة إلى جانب قوات الأنصار والبيشمه ركه ودفعها للاستسلام .
وفي الحقيقة أدى هذا النشاط من قبل عملاء النظام إلى خلق حالة من الرعب بين جماهير المنطقة ودفع قسم منها إلى ترك قراها متوجهة نحو الحدود وهي الوحيدة التي تخلصت من كماشة العدو ، واثر هذا وصلتنا أخبارا بواسطة مفرزتنا عن بدء نزوح الجماهير وترك قراهم ، فأرسلنا وفدا إلى سى ده را للاستفسار عن الموقف وهم أكدوا بدورهم على إنهم سيقومون بإرسال مفرزة للانضمام إلى رفاقنا بغية إشاعة الهدوء بين الناس ، ولكنه سرعان ما تواردت أنباء وإخبار مخيفة عن حجم القوات المتقدمة ونواياها ما أدى إلى عدم السيطرة على الوضع وبدأت الجماهير بالنزوح الجماعي واشتدت وتيرته في 23- 8- 1988 ولذا عادت مفرزتنا إلى المقر ، وعندها فقط بدأنا بشكل جدي الاستعداد للرحيل وكان ذلك متأخرا ، فأعطيت الأوامر إلى العوائل للتوجه إلى الحدود التركية عبر آشه وا فورا ولكنهم عادوا في صبيحة اليوم التالي دون أن يستطيعوا العبور بسبب الأعداد الكبيرة من القوات الموجودة على هذا المنفذ . ولم يبقى أمامنا إلا التوجه إلى كافيا وهناك وجدنا هذا المنفذ هو الآخر محتلا من قبل قوات النظام .
كفاح ( ماجد جمعة كنجي ) غيبت عائلته ضمن هذه الحملة أيضا وكانت ضمنها والدته وجدته وثلاثة من إخوته إضافة إلى عائلة عمه حسين حجي كنجي المتكونة من تسعة أشخاص . إذ قال في الحقيقة هناك عدة أسباب أدت إلى هذا التأخر والذي ساهم بدوره في فقدان هذه العوائل ضمن هذه الحملة .
1- خطأ تقديرات الحزب الشيوعي العراقي بشأن الحرب العراقية – الإيرانية التي شارفت على نهايتها دون أن يعمل على اتخاذ الإجراءات الضرورية بصدد مستقبل الحركة الأنصارية وما يرتبط بها وخصوصا العوائل التي أهملت معالجة وجودها وبقاءها ضمن مناطق تعرضت لاحقا بسهولة إلى مخاطر ثمنها كان حياة أفراد هذه العوائل . هناك من يقول أن الشيوعيين يشمون رائحة الخطر من بعيد أو يتوقعون حدوثه قبل سنوات عديدة من وقوعه ، وفي الواقع هذا لم ينطبق على قيادات الأنصار ولا على قيادة الحزب ، فلم تكن هناك قراءة مسبقة لتطورات الأحداث على مستوى العمليات العسكرية بين العراق وإيران حيث أن الانسحابات الإيرانية المتوالية من منطقة الفاو والقاطع الشمالي والوسط خلال فترة قصيرة والتي بدت وكأنها انتصارات عراقية والحقيقية كان ذلك دليلا على أن الحكومة الإيرانية ستقبل بوقف إطلاق النار بعد العودة إلى الحدود الدولية وبالتالي إنهاء الحرب ولو جرت متابعة هذه المجريات بشكل جدي لأستطاع الحزب التوصل إلى استنتاجات أفضل وبالتالي اتخاذ الإجراءات اللازمة بشأن مجمل ما سيواجه الحزب ارتباطا بهذه التطورات العسكرية في جبهات القتال ، ومن خلال هذه المسألة كان يمكن توقع نهاية هذه الحرب وبالتالي التوقع أيضا بأن النظام سيلجأ لتنفيذ مخططاته في كوردستان والاستفراد بالحركة المسلحة فيها وجماهيرها ، في الوقت الذي بدا وكأن وقف الحرب في 8-8- 1988 كان مفاجئة بالنسبة إلى الحزب ، ومن المعروف إن المفاجآت في السياسة والميدان العسكري لها عواقب وخيمة على الأرض .
2- وعلى صعيد آخر وقريبا من الأحداث تم تشكيل هيئات قيادية جديدة للأنصار بعد دمج الجانب التنظيمي والعسكري ، كانت نتيجتها قيادات ضعيفة غير مؤهلة لقيادة العمل ضمن هذه الظروف المعقدة فعلى مستوى مناطقنا جرى تكليف أبو سالار بقيادة العمل في الجانبين في الوقت الذي كان يفتقر فيه إلى أية خبرة عسكرية بخلاف شخصيات أخرى لها تاريخ عسكري مشرف مثل المرحوم توما توماس .
3- بعد إيقاف الحرب مباشرة طالب العديد من الأنصار أصحاب العوائل إبعاد عوائلهم إلى مناطق آمنة على الحدود ولكنه لم تتم الاستجابة لهذا الطلب وهذا ما أدى إلى سهولة وقوع العوائل في الحصار أثناء تقدم القوات العسكرية للنظام على مناطقنا ضمن حملة الأنفال هذه ، وبالتالي الاضطرار لتسليم أنفسهم أثناء العفو.
4- فقدان حركة الأنصار لحيويتها ونشاطها كونها تخوض حرب بارتيزانية بعد أن تحولت إلى بناء مقرات كبيرة والتقوقع فيها وممارسة معارك جبهوية وتجميع العوائل حول هذه المقرات دون النظر إلى ضرورة إبعادها إلى المناطق الحدودية لإنقاذها من أية مخاطر تتهددهم.
يتبع

محطات من أنفال به هدينان - المحطة السابعة


محطات من أنفال به هدينان
ناظم ختاري
(المحطة السابعة)
ها نحن نلتقي مرة أخرى بأهالي قرى منطقة عملنا بعد أيام ثقيلة أهلكتنا كثيرا من غير أن نقاتل .. وكيف نقاتل ومن حولنا جيش عرمرم ومدجج بأسلحة غير تقليدية تقتل الإنسان لمجرد الاستنشاق العادي إنها تهب مع الريح ،إنها رياح صفراء عاتية ، إنها غازات سامة ، إنها الخردل والسيانيد...؟!
جيش لم يبارح المعركة مع إيران إلا منذ أيام قليلة . لازالت رائحة البارود تلف حوله وتفوح منه بقوة وتهيجه لمواصلة المزيد من القتل في كوردسان ولكن هذه المرة قتل كل شئ وبهمجية لم يسبق لها مثيل .. كيف نقاتل والقرار هو الانسحاب ..؟ وبالنسبة لنا كان هذا القرار في الواقع مفاجأة غير محسوبة لأنه لم يكن قرارنا نحن بالرغم من إنه كان ضروريا لتفويت الفرصة على هذه القوات المتقدمة وإنما فرض علينا وأصبح أمرا واقعا بسبب بدء النزوح الجماعي لسكان المنطقة والتي أصبحت على حين غرة خالية تماما من غير أن ندري . وهنا لابد من التـأكيد أن مفاجأة القرار كانت تكمن في وقت اتخاذه والذي جاء متأخرا وقتما أحكمت قوات النظام سيطرتها على أغلبية المنافذ الحدودية ووقتما كانت هناك توجيهات تدعو إلى المقاومة.. ودون أن تكون هناك دراسة للإمكانيات القادمة أو استعدادات معينة حول تغيير وجهة العمل البارتيزاني أو الانسحاب المؤقت مثلا وضرورة معالجة وضع العوائل بشكل يحافظ على حياتها ويساهم في تحرير أعداد ا من الأنصار أصحاب العوائل لمواصلة الكفاح ، أو نقل القضية إلى الخارج لكسب دعم دولي .. وغيرها من الإجراءات التي كان من شأنها أن تساهم في التخفيف من وطأة هذه الحملة العنيفة وخسائرها . فكانت حربنا قد أصبحت حرب مواجهة خرجت من نطاق كونها حرب بارتيزانية حيث كانت تشارك أعداد كبيرة من القوات في معارك جبهوية كانت تستمر لعدة أيام وعلى أراضي واسعة عندما كانت القوات العسكرية للنظام منشغلة في الحرب مع إيران و تحولت إلى حرب شبه شعبية شاركت فيها الجماهير عبر تشكيلات المقاومة الشعبية ، ولكنها كانت تنقصها المزيد من المستلزمات وقبل كل شئ عدم التوصل إلى حقيقة نوايا السلطة بعد أن تتوقف الحرب ، ولذلك لم يجر إتخاذ أي إجراء ضد هذه النوايا .
التقينا الناس وهم في حالة شديدة من الانكسار أمرهم شبيه بأمر جيش مهزوم من المعركة وهو يتقهقر أمام اندفاع عدو شرس باغتهم وفاجأهم بعديده وعدته ولكنه يفضل الموت على الاستسلام ، التقينا هم بعد أن كانوا يعتقدون بأنهم سيصلون بسهولة إلى الحدود التركية وبذلك يتخلصون من قبضة عساكر النظام و إجراءات أجهزته القمعية ولكن شاء القدر أن يرغم هذا العدد الكبير والبقاء معلقين في قمم كارة لكي تكون شاهدا على معانات إنسانية قل مثيلها . فلم يكن هناك ما هو طبيعي في هذه البقعة من كارة الذي قاوم المعتدين في أحلك الظروف . شعرنا إنه (كارة) يستعد هذه المرة لمعركة أخرى تختلف عن المعارك السابقة والتقليدية لا خيار فيها للمقاتلين غير خيار هذه القوات المتقدمة وهو الإجهاز على التواجد البشري في ريف كوردستان .
فمنذ ليلة أمس أصبحت هذه آلاف تتدفق من كل مكان وواد باتجاهه يتسلقون قممه الشاهقة ليخوضوا معركتهم مع الجوع والعطش والبرد وهم في حصار يفرضه ذلك الجيش متربصا لهم بالقتل كيماويا حينما يأتمر بأمر أحد قادتهم . كنت تجد في سيانى وهي منفذ صعودنا باتجاه القمة كل شئ يدمى له القلب ، امرأة لها من الأطفال عدد لا أتذكره كانت تصيح فيهم باكية لللحاق بها نحو قمة الجبل الذي لم يبلغوه قبلا غير بضعة خطوات صعودا عندما كانوا يلعبون في طرف قريتهم ما قبل زمن القصف والقتل بالكيماوي وقبل أن يسمعوا باسم سيد هذه الأسلحة القاتل المتوحش علي كيماوي ، امرأة أخرى تركت التنور مشتعلا دون أن تستطيع صنع رغيف واحد يساعدها وعائلتها على مقاومة الجوع القادم ، شيخ ينادي (فه رمانه ..هاوار.. فه رمانه )* ( داي وه له د هافيت) * ولم يكن يعني هذا الشيخ إلا الحقيقة بعينها عندما تركت امرأة أخرى مولود ها في (كه لي كافيا ) وهو في ساعاته الأولى . من يحكم هذا العالم يا ترى .. ولماذا لا يتحرك ضميره ويرفض هذا الظلم ..؟ تمتم أحد الأنصار بذلك وهو يراقب المشاهد بهدوء ويغسل جورا به بعد ليلة متعبة من السير بماء يتدفق من نبع صافي يقع في أعلى كه لى سياني وينحدر نزولا يلف القرية إلى نصفها ثم يتجه نحو باب الوادي حيث بساتين القرية التي تسقى منه لتشكل مصدر معيشة سكان القرية الأساس .. صاح رفيقنا المسئول العسكري استعدوا أيها الرفاق للصعود دون تأخير ، حملنا معنا ذلك العجين الذي تركته امرأة من هذه القرية وسرنا في الإتجاه الذي يسير فيه بقية الناس كان صعودا حادا يثقل من تعبنا كثيرا ولكن المشاهد المأساوية والكثيرة حولنا حالت دون نشعر إلا بها ، صرنا نساعد الأطفال على الصعود و نحملهم على ظهورنا المحملة بالعتاد والسلاح الشخصيان وكمية من الأغذية وما إلى ذلك ، كانت هذه المرأة والدة عدد من الأطفال تحمل فوق ظهرها ثقلا يعيقها من الحركة وكانت أبنتها ذات السنوات الستة تحمل شقيقها الرضيع على ظهرها و خلفها أطفال آخرون و بقية أخواتها وإخوانها كلهم كانوا بعمر الورود وكان مشهدهم يثير الكثير من الألم وخصوصا عندما كانت تلك الطفلة الصغيرة بين كل عدة خطوات تتدحرج نحو الأسفل مع ذلك الرضيع مما اضطررت رغم كل مإ كنت أحمله أن أحمل الرضيع على ظهري أيضا وعندما بلغت القمة جلست على طرف من الطريق منتظرا وصول والدة الطفل وجدت شابا يحمل الكثير من القلق يبحث هنا وهناك وينتظر قوافل الناس الصاعدة إلى قمة الجبل ولما وقعت عيناه علينا أنا والطفل أقترب وتفحص الطفل فسرعان ما قال أن هذا الطفل لي وأنا أبحث عنه فقلت له أن بقية عائلته ستصل بعد قليل .
بعد خطوات من وصولنا إلى القمة التقينا بالعديد من المعارف من أهالي هذه القرى وكان أولهم محمد رشيد سواري وهو أحد أقرباء رفيقنا أبو فيلمير سألته عن رفاقنا فأشار إلى مكان تواجدهم ، ومن هنا كنت تجد تدفق الناس إلى هذا المكان على شكل مجموعات متعددة تظهر من كل اتجاه متجمعة في هذا المكان الذي يمكنه أن يستوعب الكثير من البشر مع كل همومهم . مجموعة هنا وصلت للتو سرعان ما التصق اجساد أفرادها بالأرض بسبب التعب والإرهاق الشديدين والخوف وأخرى تغرق في نوم عميق وثالثة تحاول أن ترتب مكانا لها وقطيع غنم يسرح بين هذه المجاميع لا يعرف أحدا لمن يعود ، ولا أحدا يأبه بعائديته له وما أكثر هذه القطعان التي تحولت لحساب رؤساء ومستشاري الأفواج الخفيفة عندما تركها أهلها في مراعيها ضمن قراهم .. وهكذا كان العشرات من المحاصرين يسألون عن آباءهم وأمهاتهم وأطفالهم وأقرباءهم وأهالي قراهم الذين تاهوا بعضهم بعضا ، صرخات الأطفال ترتفع خوفا فإنهم لم يدركوا تماما ما الذي يجري وما تخبئه لهم الأيام القادمة وهم في يومهم الأول ويحصلون على الخبز بطريقة مقننة فكيف ستكون الأيام التالية ، بكاء النساء يتصاعد وهن يشعرن قبل غيرهن بحجم كارثة كل واحدة منهن حتى وإن لم تكن تفكر بأنها نفسها ستكون الضحية مثلها مثل الرجل المسلح والمقاوم . لا فرق في هذه المعركة الغير متكافئة بين رجل تحدى الجيوش ببندقيته البرنو وخلف صخرة في أحد جبال كوردستان وبين امرأة لم تخلف بعد مقاتلا من وطن هذه الجبال أو فتاة تتأمل الاقتران بمقاتل أو طفل لم يحارب أو لم يتعلم الحرب بعد أو شيخ عجزته كهولته عن الحرب والمقاومة ... مناداة الرجال لمفقود يهم تعلو وتملأ الوديان القريبة من هذه المنطقة حقا إنه( فه رمان ) لا يعرف أحدا كم من الدماء ستكون ثمنا لهذه الجريمة الوحشية .
كان هؤلاء الناس في المعارك السابقة أقوياء يشاركون بشجاعة في التصدي لغالبية هجمات قوات الجيش العراقي والمرتزقة ، بل يشاركون في توجيه ضربات موجعة لمواقع هذه القوات وكان التصدي المشترك للكثير من هذه الهجمات يتحول بالنسبة إلى الشبيبة الريفية إلى مناسبات لإظهار قدراتهم القتالية وفرص جيدة لتوثيق العلاقة بين أطراف عشائرية متنافرة وإزالة أسبابها ولكن اليوم ليست بيدهم حيلة.. فالعوائل تعيقهم والأسلحة الكيماوية تتهددهم . وأسباب تواجدهم هنا في هذا الحصار تستعصي على الفهم للكثير منهم ربما كان كل فرد منهم يفضل الموت بعد قتال في أطراف قريته أو أن يجري اقتياده من قبل هذه القوات المتقدمة من أطراف قريته بعد أن يستسلم لها عندما تنتهي كل وسائل المقاومة ولا يهم كيف سيكون مصيرهم فقدرهم كان دائما أن يدفعوا الضريبة جراء رفض ظلم الحكومات الشوفينية حتى ولو كانت هذه الضريبة حياتهم ، إذ كانوا مستعدين لها كما فعل الآخرون من قبلهم وضمن هذه الحملة نفسها التي بلغت ضحاياها البشرية وفق الوثائق الرسمية 182 ألف كوردي و4500 قرية مع كل ثرواتها الطبيعية والحيوانية .
وعندما تجد الإصرار لدى الناس حتى في حالات ضعفهم الشديدة والاستعداد للتضحية.. نعم الاستعداد للموت وهم يدركون تماما أن عدوهم لا يأبه بضعفهم فيحسبون أن قدرهم هو هكذا وأن هذا الضعف ليس إلا استعدادا للموت من اجل قضيتهم وليس استسلاما أو تسليم راية.. فهنا يطرح السؤال نفسه لماذا تم زجهم في هكذا موقف ضعيف وهذا الشكل من التضحية أو الموت ..؟ ألم تكن مقاومة هذه القوات المتقدمة في أول قرية تقع على طريق تقدمها خيارا أفضل من أن يدفن هذا العدد المذكور أعلاه في الرمال وفي مقابر جماعية انتشرت في كل مكان من العراق بعد أن واجهوا المزيد من إهانة كرامتهم الإنسانية ..؟!! ولحد الآن لم يتم العثور على مقابر الآلاف منهم ولا يستطيع ذويهم زيارة مقابرهم ووضع أكليل ورد عليها في المناسبات .. أم كان لابد من بروفة ثمنها هذا العدد من الضحايا لنقل القضية إلى الساحة الدولية بعد أن استنفذت كل الوسائل الأخرى من أجل تحقيق ذلك ..!! وكان للسياسة حساباتها الخاصة ...!!!! ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- (فه رمانه ..هاوار.. فه رمانه )* جملة كوردية تعني " إنها الإبادة.. النجدة.. إنها الإبادة"
- ( داي وه له د هافيت) * جملة كوردية تعني " الأم تتخلى عن ولدها "

محطات من أنفال به هدينان - المحطة السادسة


محطات من أنفال به هدينان

ناظم ختاري
(المحطة السادسة )
في عصر يوم 25-8- 1988 وقبل أن يحل الظلام تهيأت مجموعتنا مرة أخرى وشدت الرحال للخوض في رحلة مجهولة ووسط مخاطر مجهولة أيضا وكنا في الواقع نتوقع أن تكون هذه المخاطر كبيرة ومتأكدين من إنها جدية ولكننا لم نكن نعرف عنها شيئا سوى أن أعدادا كبيرة من قوات النظام أصبحت تحاصرنا وهي مدججة بأسلحة كيماوية لا يمكن للمقاتلين مقاومتها مهما كانت عزيمتهم ومهما كان اندفاعهم وإخلاصهم لقضيتهم . فالمرء عندما يحمل السلاح بدافع من الضمير والقناعة ودفاعا عن قضية حق يؤمن بها إيمانا مطلقا يمكنه أن يحقق مآثر و بطولات في أشرس المعارك مع العدو ، ولكنه قد لا يستطيع تحقيق ذلك عندما يستخدم عدوه أسلحة كالأسلحة الكيماوية والتي أستخدمها نظام صدام حسين في العديد من المعارك مع قوات الأنصار والبيشمه ركه وضد الشعب الكوردي في مناطق عديدة من كوردستان . ورغم ان مناضلي الحرية من الأنصار والبيشمه ركه و قوات المقاومة الشعبية كانوا يدركون أن مقاومة مثل هذه الأسلحة مستحيلة فإنهم امتنعوا عن الاستسلام لها وكانوا يشعرون أنهم بحاجة إلى أسلوب آخر من النضال للتصدي لهذه الهمجية وفي الواقع أصبح واضحا أن هذه المهمة لا يمكن لها أن تتحقق دون أن تنتقل قضية الشعب العراقي بشكل عام والشعب الكوردي بشكل خاص و بجهودهم وعلى أكتافهم وبدمائهم وتضحياتهم وتضحيات الجماهير الكوردستانية إلى العالم الخارجي لكي تجد لنضالهما العادل سندا ودعما دوليان يساهم في ذلك كل المجتمع الدولي و القوى المحبة للسلام والإنسانية والحريصين على العراق وأصدقاء شعبه كوردا وعربا. ولكن يبدو أن المجتمع الدولي هذا كان ظالما لم يتحرك ساكنا وصادقا إزاء قضيتنا ولم يتألم أو يؤنبه ضميره عندما كان يراقب معاناتنا وفجائعنا إلا عندما تعرضت مصالحه إلى التهديد والخطر.
نعم كان من الحكمة أن يتم الإعداد لهذا الأمر عبر دراسة علمية ووضع خطط عملية للبحث عن مساندة دولية لهذه القضية العادلة التي كانت تفتقر إليها وخوض نضال لا هوادة فيه من أجل فضح نهج النظام الدكتاتوري وطبيعته العدوانية لغرض فرض عزلة دولية عليه ، لأنه أصبح واضحا إن إمكانية إسقاط هذا النظام غير متوفرة لدى المعارضة العراقية لأسباب 1- آلته العسكرية الهائلة بما في ذلك الأسلحة الكيماوية ألتي أصبح يستخدمها دون أي رادع في شتى المعارك في كوردستان بل ضد السكان الأبرياء في ريفها وقصباتها وأكبر دليل على ذلك مدينة حلبجة الشهيد والعديد من المناطق الأخرى التي جاء ذكرها في محطات سابقة . 2- الدعم الدولي الذي كان يحصل عليه وبشكل خاص الدعم العربي فرغم استخدامه الأسلحة المحرمة دوليا فإن أية إدانة دولية لم تصدر بحقه لكي تردعه عن ارتكاب جرائم أخرى ، بل كان يحصل على المزيد من أسلحة القتل الجماعي من دول ذات شأن وتأثير دوليان ... وإلى جانب هذا كان من الضروري عدم الإفراط بقوات الأنصار والبيشمه ركه وإبقاءها على الأرض كقوة فاعلة لمواصلة دكها مواقع السلطة حينما تتوفر الفرص لذلك وإيجاد أشكال أخرى لحربها تتلائم وحجم الآلة العسكرية للنظام وإمكانياته الهائلة في الجوانب المختلفة بعد تفويت الفرصة عليه في هذه الحملة الشرسة (حملة الأنفال ).
تحركنا وكما قلت عصرا آخذين بنظر الاعتبار ضرورة اختيار طريق لا تجبرنا المرور بداخل (سى ده را) بل المرور بجوارها وكان ذلك إجباريا ولم يكن بالإمكان تحقيق ذلك دون أن نسير في وديان غير مطروقة سابقا ومجهولة بالنسبة لنا ولكن كونها مناطق قريبة من المقر كنا نعرف كيف نخرج منها وهكذا واصلنا المسير إلى أن أشرفنا على (سى ده را) بعد أن حل الظلام ومن الجهة التي كنا نرغب أن نصلها أي من جهة ( كاني بوتكى )* التي تقع بين سى ده را وقمة الجبل المشرفة على به رى كارة وبالذات على قرية بهى . كان علينا أن نكون حذرين جدا ونحن نسير في سفح الجبل الذي يشرف على المقر لأنه بدأ وكأنه مليء بالقوات المتقدمة بسبب الأصوات التي كانت تصل إلى أسماعنا ولكن دون أن نستطيع تمييزها علاوة على النيران المنتشرة في أماكن عديدة من المقر وكنا نخشى كثيرا ما تصدره حوافر البغل الذي كان معنا من أصوات وهو يحمل عنا الكثير من ما لا نستطيع حمله وخصوصا أن المسافة بيننا وبين المقر لم تكن بعيدة كان يمكن أن ينكشف أمرنا بسهولة لو اصطدمت حوافر البغل أو قدم أي واحد منا بحجارة صغيرة وتدحرجت إلى الأسفل . فبحبس الأنفاس وبذل جهد كبير مع البغل أصبح مقر (سى ده را) خلفنا محاولين وعلى عجل الوصول إلى الطريق المطروقة والمعروفة بالنسبة إلينا .
تنفسنا الصعداء وسرعان ما أصبح كل شئ يسير بشكل طبيعي ونحن نواصل السير بأتجاه (زوم)* (سه فرا)* الخربة وهناك توقفنا قليلا للراحة وثم واصلنا المسير وبعد فترة قصيرة من تقدمنا لم تستغرق أكثر من 15 دقيقة سمعنا أصواتا تتقدم نحونا فأخذنا استعداداتنا تحسبا لأي طارئ ولكن سرعان ما تبين أن القادمين نحونا هم من المدنيين ومن أهالي قرية (كانيا باسكا ) المذكورة ضمن المحطات السابقة عدة مرات وكان يتقدمهم الشاب هاشم وهو أبن مام نجمان الذي يسكن القرية مع أخويه مام اوصمان وميرزا ، كنت على علاقة طيبة بعائلة هاشم التي استمرت إلى أيام دهوك بعد الانتفاضة ، تحدث هاشم لنا كيف أنه مع بقية عائلته وضمن أعداد كبيرة من الناس وصلوا إلى وادي قرية كافيا التي كان يسكنها أبناء عشيرة الزيبار وتراجعوا بعد ذلك عندما وصلت أخبارا تشير إلى أن الطريق الوحيدة المتبقية أمام هذه الأعداد الكبيرة سيطرت عليها قوات الجيش في قرية كافيا وتحدث عن معارك طاحنة خاضها بيشمه ركه قاطع أربيل للحزب الشيوعي قبل هذا الوقت على معبر روي شين أنقذوا خلالها أعداد كبيرة من العوائل وكبدوا العدو خسائر فادحة.
كان قلق هاشم كبيرا وهو الرجل الوحيد من بين أفراد عائلته يقود عددا من النساء وسط وضع صعب لم يفهمه وهو يريد العودة باتجاه قريته على أمل أن يلتقي هناك مع بقية أفراد عائلته وعوائل أعمامه ، ولكننا أوضحنا له خطورة الموقف وأن (سى ده را ) أصبحت الآن محتلة من قبل قوات الحكومة .
عرفنا منه أن هذه الأعداد الكبيرة من البشر أصبحت تتراجع بينها مفارز عديدة من قوات الحزب الديمقراطي الكوردستاني وقوات محلية نينوى لحزبنا الشيوعي العراقي وعوائل أنصارنا وذلك نحو جبل كارة للاحتماء به لأن القوات المتقدمة للعدو أصبحت تحاصر هذا الجبل بشكل تام وهذا ما كنا نلاحظه أولاحظناه بأم أعيينا على الأقل على مستوى جهة (سوارة توكه) عن طريق (سوارى وسبيندارى) وجهة أتروش وثم باكرمان ودينارته وها أن أهالي القرى الذين يعدون بالآلاف وقواتنا تتراجع أمام تقدم قوات النظام وإغلاقها لكل المنافذ من جهة بارزان وديرالوك وأخيرا كافيا وعرفنا كيف أن عوائل أنصارنا لم تستطع العبور عبر منفذ آشه وا بالقرب من سرسنك.
أصبحت الإطلاقات التنويرية تنطلق من كل جهة وصوب وأصوات الإنفجارات لا تتوقف ونحن لازلنا نسير على الطريق المؤدية إلى كه لي كافيا عبر قريتي (ئه ركنى وسيانى )* ونحسب في أي نقطة سنلتقي بجموع الناس وقواتنا . إلى أن وصلنا إلى (سيانى ) فجرا حين بدأت مجاميع المتراجعين تظهر لنا وهي تتوجه صعودا نحو كارة وبدأت قوات النظام المرابطة على قمم جبل في الجهة المقابلة واضحة لنا بالعين المجردة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- ( كاني بوتكى )*عين ماء تقع في منطقة عالية من جبل كارة من جهة سى ده را أي بينها وبين قرية بهى وفي ما يشبه على شكل حوض مقوس وعلى جانب منه في الجهة الجنوبية وكانت المياه التي تتدفق منها لا تزيد عن ما تدفعها أية حنفية منزلية ولكنها كانت مياه عذبة تتميز بشدة بردوتها ، في الصيف كان الرعاة يقضون عدة شهور عليها مع قطعانهم وخلال فترة الحصار أصبحت هذه العين المصدر الوحيد ترتوي منها هذه الآلاف من البشر المحاصرين .
- (زوم)* مراعي صيفية في الجبال يتوفر مستلزمات تربية الماشية . يذهب إليها الرعاة مع قسم من عوائلهم ، ولذا تجد لكل منطقة مراعيها الخاصة .
- (سه فرا)* كانت في السابق قرية وتحولت فيما بعد إلى أحدى هذه المراعي ومن ثم سكنتها بعض عوائل البيشمه ركه التابعة للحزب الديمقراطي الكوردستاني .
- (ئه ركنى وسيانى )*قريتان تقعان في نهايات كارة من جهة الجنوب الشرقي التي ترتبط بمنطقة الزيبار وتعتبر من المناطق الجميلة جدا وتسكنها عوائل زيبارية .

الاثنين، 28 أبريل 2008

محطات من أنفال به هدينان - المحطة الخامسة


محطات من أنفال به هدينان

ناظم ختاري
(المحطة الخامسة )
وفي لحظات معينة وبعد دخولنا مقر مه رانى مباشرة شعرنا برهبة شديدة هرعنا اثر ذلك صعودا مسرعين مرتبكين نحو مواقع مضاداتنا الجوية ( الدوشكه) المتواجدة في قمة قريبة في مواجهة المقر وهي تسيطر بعلوها على كافة أرجاء المنطقة وتحمي المقر من غارات الطيران الغادرة وجدنا رفيقين لنا ينحدران نزولا من نفس تلك المواقع وهما ينتظران وصولنا بعد أن قررت قيادة المحلية الانسحاب في عصر يوم الرابع والعشرون من أب أي قبل وصولنا بليلة واحدة ، وخففا في الحال من مخاوفنا بعد أن قالا أن هذه الرائحة الكريهة والتي تملأ الوادي هي لبقايا عجل تعفنت كان يعود للنصير(عبد مام أحمد)* ذبحه استعدادا للانسحاب والتزود بلحمه والاستفادة منه في الطريق ، وليس لأي أسلحة كيماوية لأننا لم نتلقى أية ضربة بواسطة هذه الأسلحة لحد انسحاب رفاقنا عصر البارحة وإلى هذا اليوم ، وفي الحقيقة كان قد تولد لدينا شعور جماعي عند دخولنا المقر وسط هذه الروائح الكريهة التي شقت طريقها سريعا إلى أنوفنا ، بأن قوات النظام ربما نالت من كل رفاقنا وعوائل أنصارنا بواسطة أسلحة كيماوية ، والذين يبلغ عددهم أكثر من ثلاثمائة شخص مع العوائل ماعدا مجموعتنا التي دخلت المقر للتو ، وقالا لكن الطائرات العراقية استخدمت هذه الأسلحة وألقت بها قبل أيام قليلة بالقرب من آفوكى وعلى الطريق بينها وقرية سوارى وقتلت إمرأة من أهالي هذه الأخيرة وألحقت أضرارا بقطيع غنم كان هناك فأنفقت العديد منها علاوة على نفوق أعداد من الطيور البرية تساقطت على الأرض في المنطقة نفسها ، وقالا أن رفاقنا الأطباء ذهبوا إلى هنالك لمعاينة الوضع بعد ساعات من القصف وأكدوا أن كل ما يحصل هناك يدل وبشكل قاطع كون هذه القنابل التي سقطت في هذه المنطقة كانت عبارة عن مواد كيماوية وغازات سامة أدت إلى إحداث هذه الخسائر ، وقيل إضافة إلى ذلك ان رجلا من سكان قرية سوارى حاول استخدام بعض القطع من هذه الصواريخ المتفجرة لحاجة ما فأصيب بورم غير إعتيادي لونه أحمر في عيناه الاثنتان ، عولج وعلى حد قول أحد أنصارنا في مقر مه رانى . وذكر فيما بعد أن أسلحة كيماوية استخدمت في وادي كانيا باسكا والتي مررنا فيها (القرية) ليلا ، وفي الواقع مرا من هناك أيضا بعد القصف بعدة ساعات رفيقين لنا في نفس يوم انسحابنا ولكننا لم نلتقي بهما وكانا متوجهان إلى الداخل أحدهم إلى بغداد والآخر إلى أحدى أقضية محافظة نينوى وهما أكدا قصف الطائرات العراقية لهذه المنطقة بالأسلحة الكيماوية .
زالت مخاوفنا وشعرنا بارتياح إلى حد ما وتوجهنا نحو النهر الذي كان يتوسط المقر للاغتسال والشرب وعلى بعد عدة أمتار من منبعه ، لم يكن هناك ما يوازي مياه هذه العين من جهة صفاءها وبردوتها وكان الجميع يقول وبشهادة أهالي قرى المنطقة بأنها تساعد على صرف الطعام الذي يتناوله المرء في الحال فكنت تشعر وأنت تشرب قليلا منها بعد تناول الطعام بالجوع مرة أخرى مباشرة ويتحدث الناس على أن هذه العين بين كل عدة سنوات يصيبها الجفاف مرة واحدة وهذا ما أشعرنا بالقلق ولكن لحسن الحظ فأن كل السنوات التي قضيناها هناك على هذه العين كانت معطاءة وظلت المياه تتدفق منها دون توقف وأحيانا كثيرة كانت تتعدد الينابيع من على المصدر الرئيسي لها وخصوصا في السنوات التي كانت تكثر فيها الأمطار والثلوج .. جرى تبادل الأحاديث كثيرا تركزت على سرعة تطور الأحداث التي أدت إلى هذه النتيجة والتي مفادها الانسحاب دون معرفة نتائجه بسبب عدم احتساب الوقت المناسب له وذلك لأسباب عديدة منها وقبل كل شئ عدم التوصل إلى حقيقة ما كانت تريده قوات النظام من تقدمها بهذه الأعداد الكبيرة من قبل مجموع الأحزاب العاملة على الساحة الكوردستانية إذ لم يجر الاستعداد لاحتمال أن تكون هذه الحملة على هذا القدر من الشدة وعواقبها الكارثية على المنطقة وقدرتها على دفع الحركة المسلحة في كوردستان إلى خارج الحدود وتدمير الريف الكوردستاني بعد أن يلحق بسكانها أفدح الأضرار من قتل وتهجير ،هذا من جانب أما من الجانب الآخر كان هناك ضعف واضح في التنسيق بين الفصائل التابعة لهذه الأحزاب وكانت قوات كل حزب تتصرف دون الآخرين أو قوات الأحزاب الأخرى وهذا ما حدث عندنا على مستوى العلاقة بين المجاميع التابعة للحزبين الشيوعي والديمقراطي الكوردستاني حتى في ظل هذه الأوضاع الصعبة ، ففي الوقت الذي كان أنصارنا يتوجهون إلى القرى لشحذ همم السكان وتشجيعهم على المقاومة كنت تجد في الجانب الآخر عدم وضوح في الموقف إزاء هذه القضية وعدم وجود أية رغبة في التنسيق مع قواتنا وخصوصا في اليومين الأخيرين قبل الانسحاب بالرغم من اللقاءات التي سبقت هذا الانسحاب والتي أختلف وتناقض التعامل الحقيقي مع ما كانت تصدرها هذه اللقاءات من قرارات تدعو إلى المقاومة كما حصل في منطقة خواكورك على سبيل المثال حيث قاوم الأنصار والبيشمه ركه في معارك تلك المنطقة لما يقارب شهرا كاملا . ولم يجر تدارك هذا الأمر إلا عندما أصبحت المنطقة فارغة تماما من السكان والقوات أي بعد ما ظهر كل شئ جليا أما الأعين ، فالجيش بعديده وعدته يتقدم والقرار هو عدم المقاومة والانسحاب أو النزوح جماعيا صوب الحدود.
أن التنسيق الجيد والعمل معا بين أحزاب الجبهة الكوردستانية على مختلف المستويات والوحدات العسكرية التابعة لها في جميع مناطق تواجدها كان من شأنهما أن يؤديا إلى نتائج أخرى غير التي نتحدث عنها والتقليل من هذه الخسائر المهولة التي أصبحت ثمنا لوحشية النظام وتصميمه على إنهاء وجود الحركة المسلحة في كوردستان من خلال أتباع سياسة الجينوسايد هذا أولا و ضعف أو انعدام التنسيق المطلوب بين أحزاب الجبهة الكوردستانية وعدم القدرة على التوصل لنوايا السلطة وفهمها التي أعدت لمثل هذه الحملة على ما يبدو منذ فترة غير قصيرة وهذا ثانيا ، ناهيك عن عدم التأني في توقيت اتخاذ قرار النزوح الجماعي وخطأ التقدير بشأنه بالرغم من أهميته إزاء هذا الجنون التي تقدمت به قوات النظام .
وبعد وصول المجموعة الثانية من مفرزتنا إلى مه رانى كان ينبغي أن يتركز الحديث حول الوجهة التالية وكيفية اللحاق برفاقنا المتوجهين صوب الحدود عن طريق قرية كافيا التي كان يوجد فيها المقر القيادي للجنة أقليم كوردستان للحزب الشيوعي ، ثم باتجاه منطقة بارزان وهي الطريق الوحيدة التي من المفترض أن تكون مفتوحة أمام انسحاب الآلاف من أبناء هذه المناطق والأنصار والبيشمه ركه ، بينما كان أحد هذين الرفيقين يحمل رسالة من اللجنة القيادية إلى الرفيق الذي ألتحق بنا من تنظيمات قضاء الشيخان في بير موس في الساعة الأخيرة من وقت انسحابنا تؤكد على ضرورة عودته إلى نفس منطقة عمله مرة أخرى ومتابعة الأوضاع برفقة حامل الرسالة ، في الواقع كان الأمر في غاية الصعوبة بسبب إغلاق كافة المنافذ التي تؤدي إلى هناك بقوات الجيش والجحوش المتقدمة ، وكيف سيتصرفان في هذه المنطقة في حال الوصول إليها بسلام وبمعزل عن تواجد قوات الحزب أو حتى قيادته التنظيمية وفي الوقت الذي أصبح فيه عملية إيواء أنصار أو كوادر تنظيمية من قبل الشيوعيين وعوائلهم في هذه المناطق عبئا ثقيلا ومخيفا جدا ..؟ ورغم كل هذا لم يتردد الرفيقان في قبول المهمة واستعدا لاختراق هذه القوات والوصول إلى الده شت ومعايشة هذه الخطورة الأنفة الذكر ومصاعبها كما كان الأمر بالنسبة إلى مجاميع أخرى كانت تعيش هناك وتعاني الملاحقة المستمرة ومنقطعة الصلات بالحزب ، بعضها قاومت بكل جرأة ولها ألف حكاية وحكاية أرجو أن يستطيع أبطالها روايتها في ظل ظروف أفضل ، و كانت هناك مجاميع أخرى لم تفلح في مقاومة شراسة الأجهزة الهمجية القمعية للنظام .
كان علينا أن نستعد لسفر لم يستطع أحدنا التكهن بنتائجه أو في الواقع لم تكن هناك معلومات حول الأعداد الكبيرة التي توجهت إلى تلك المنطقة لغرض العبور ، وهل استطاعت العبور أم لا..؟ . وبسبب عدم معرفتنا التامة بمدى تقدم قوات الجيش والجحوش و إلى أي المناطق القريبة من مقراتنا وصلت ..! ، عموما تأكد لنا بشكل قاطع أن هذه القوات أصبحت على مقربة من مقراتنا وهي تطوقنا من جميع الجهات وكنا نتأكد من ذلك بسبب تزايد اقتراب أصوات الإنفجارات من كل جهة ولذا تقرر أن يبدأ تحركنا مساءا عبر مقر (سى ده را) للحزب الديمقراطي الكوردستاني – لجنة الشيخان وهي الطريق الوحيدة التي يجب علينا اتخاذها ، ولكن ليس عبر قرية (أطوش)*، وعادة ما يكون الظلام في مثل هذه الحالات أفضل صديق للبيشمه ركه ولذلك كان علينا أن نجتاز (سى ده را ) أثناء الظلام ...
واستعدادا لهذه الجولة من الانسحاب تقرر الإبقاء على عدد من الأنصار لإعداد كمية من الخبز وخصوصا أن مخازن المقر كانت مليئة بكل أنواع الأرزاق لأن موسم تساقط الأمطار والثلوج أصبح قريبا و كان لابد من تجهيز المقر بهذه الأرزاق لشتاء كامل كالمعتاد . وهكذا ذهب بقية الأنصار إلى وادي آخر يقع في منطقة قريبة من الجهة الشمالية للمقر لأن البقاء في المقر بهذا العدد لم يعد أمينا ، وذلك انتظارا لانقضاء هذا اليوم ولحين حلول الظلام . وهناك قمنا مرة أخرى بإخفاء بعض الأسلحة الزائدة عن الحاجة وثم كان لابد لنا ننام بعض الوقت كي نتمكن من مواصلة المسير ليلا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- (عبد مام أحمد)* من أكبر أبناء مام أحمد سوارى كان له ضمن مفارز أنصارنا ثلاث أشقاء آخرين بينهم جمال وهو على قيد الحياة و استشهد منهم اثنان ( جاسم على يد الغادرين بين سوارى و آفوكى ) و(هلال في عملية غادرة قامت بها الطائرات السمتية على أحدى مفارزنا بالقرب من بير موس اثر معلومات إستخبارية حصلت عليها السلطة من أحد عملاءها في المنطقة راح ضحيتها 9 شهداء من الأنصار أبطال وعدد كبير من الجرحى ) .
- (أطوش)* من القرى التي قدمت الكثير للحركة كانت تتكون من عدة بيوت نصفها مسيحيون والنصف الآخر مسلمون كانوا يعيشون بوئام وسلام وحلت عليهم العديد من عوائل أنصارنا من الأيزيدية وجميعهم عاشوا في ظل علاقات طيبة جدا وتولدت بينهم علاقات ( الكرافة ) التي زادت من أواصر الصداقة بينهم أكثر ، حتى لقب بعض أنصارنا بفلان الآطوشي . وتقع هذه القرية على الطريق بين مه رانى و سى ده را .


يتبع

محطات من أنفال به هدينان - المحطة الرابعة


محطات من أنفال به هدينان

ناظم ختاري
(المحطة الرابعة )
تحركت مجموعتنا في موعدها المحدد ، ووجدت جميع القرى التي في طريقها خالية من السكان ، فلا أتذكر إننا التقينا بشرا في كل هذا المشوار إلا عندما وصلنا إلى مه رانى ، وكان ذلك في الواقع أمرا غريبا رغم معرفتنا به قبل هذا الوقت ولكننا كنا نتصور أن نجد ناسا في القرى الخلفية وهذا لم يحصل أبدا ، فكما كانت (جه مانكى وباله ته وبازيركى ودزى)* والقرى القريبة منها (قرى منطقة عملنا ) خالية من السكان كانت القرى الأخرى أيضا خالية والتي تقع على طريقنا وحواليها باتجاه المقر مثل (بينارينكى وكاني باسكا وكابنيركى وخوربينيا وباك باكى وسوارى وسبيندارى وميزى وبانيا ته علا وجه مانى ) *و(القرى البديلة)* عنها التي جرى بناؤها للتمويه وتجنب الهجمات الكيماوية أو القصف العادي الذي أصبح أمرا شبه يومي ، وكان عادة يجري بناء هذه القرى بطريقة يصبح الجزء الغالب من حيطانها مطمورا في عمق الأرض لمقاومة شدة انفجار القذائف وشظاياها وكان يجري اختيار بناء هذه القرى في مناطق حسب اعتقاد الأهالي بأنها غير معروفة للسلطة وهي تقع في وديان تتميز بصعوبة الوصول إليها من قبل مشاة الجيش العراقي بسبب وعورتها وعلى اعتبارها أهدافا غير قابلة للإصابة بقذائف المدفعية والهاونات .
وقبل حلول الظلام وصلنا إلى قرية بينارينكى البديلة والتي تبعد عن القرية الأصلية مسافة عدة كيلومترات قليلة لا تتجاوز 3 أو 4 منها ، فكان علينا أن نأخذ قسطا من الراحة والانتظار لتقريب المسافة بيننا وبين المجموعة التي تتبعنا وخصوصا أن الظلام سيحل قريبا و علينا أن نواصل المسير ونكون على معرفة ببعضنا الآخر نحن المجموعتان وأين وصلنا.. لمواجهة الاحتمالات الطارئة لأن وقوعها أصبح واردا بسبب بدء التقدم العملي في المناطق التي كنا ننسحب منها وعبر المنافذ الأخرى للوصول إلى قرى المنطقة وثم مقراتنا فكانت أصوات الإنفجارات المتتالية تشق السكون المخيم على هذه المنطقة في كل صوب واتجاه معلنة حربا شرسة عليها .
كانت هناك حاجة لأن نستغل هذا الوقت لإعداد طعام ما لنا وللمجموعة الثانية ، نتناوله نحن لحد ملأ بطوننا تحسبا لاحتمالات القادمة الجوع ونترك حصة المجموعة الثانية ونتركهم عندما يصلون حتى يشبعوا بطعام شهي والذي سنشتاق إليه كثيرا عندما تصبح كسرة خبز حسرة كبيرة للآلاف من الناس المحصورين من أهالي هذه القرى في قمم ووديان جبل كارة ، وهكذا صعد أحدنا إلى الشجرة التي كان عليها عددا من الديوك الرومية والتي تركها أهل القرية مع كل أشياءهم وحاجياتهم الأخرى واخترنا واحدا منهم بعد أن نزل سربهم طائرا مفزوعا.
وبسرعة شديدة أكتمل كل شئ بعد أن كانت جميع مستلزمات الطبخ متوفرة في كل بيت تذهب إليه وتجده مفتوحا وأصبح القدر الكبير والذي يحمل الكثير من اللحم والرز وأشياء أخرى على موقد تشتعل فيه النيران الملتهبة من حطب البلوط . وانتظارا لإنضاج وجبة الطعام هذه بحثنا عن طعام آخر نكسر بها جوعنا الشديد فتذكرت أن العائلة التي كنت أزورها في هذه القرية وفي ظل الظروف الطبيعية لا تبقى بدون عسل جبلي قط يجمعونه من خلايا النحل الجبلية المنتشرة في مناطق وعرة جدا ولما كانت كوردستان غنية بخضرة وديانها وجبالها فأن العسل الذي تنتجه هذه الخلايا عادة ما يكون من أفخر أنواعه ... فقلت لأحد الرفاق لابد أن يكون هناك في هذا البيت عسلا . فقال وكيف تعرف ذلك .؟ شرحت له علاقتي الطيبة بهذه العائلة وغيرها من العوائل التي لم تعز أي شئ إلا وقدمت للأنصار والبيشمه ركه طيلة السنوات التي كنا نعمل فيها ضمن منطقتهم وقبلنا الآخرون منذ سنوات طويلة ، ليس هذا فقط بل يرفدون الحركة بدماء أبناءهم ، فأية عائلة ليس لديها شهيدا أو مقاتلا في صفوف البيشمه ركه في كل هذه المنطقة ، فكيف تريدني أن أنسى ما كانت تقدمه لي والدتهم ..؟ وتقول لي كل يا بني فأن طريقا طويلة أمامكم !.. فلازمنا صمت مطبق شابه الكثير من الحزن ونحن نتذكر هذه العوائل الفلاحية الطيبة التي كانت بمثابة أهالي حقيقية لنا نحن البيشمه ركه .. ولما انشغلت بتوزيع النار في الموقد وتحت القدر لكي ينضج الطعام الذي يحتويه بشكل متساوي أبلغني الرفيق بأنه لم يجد العسل الذي تحدثت عنه فأسرعت إلى حيث مكان المؤن المتروكة لهذه العائلة وفتحت أول علبة نيدو للحليب سعة 5 لترات التي عادة ما كانت تستخدم هذه العلب لحفظ بعض المواد الغذائية فيها في مختلف مناطق كوردستان بسبب مقاومتها للرطوبة وعملية إحكامها بشكل جيد ، وجدتها مليئة بالعسل تناولنا منها شيئا وملأنا منها علبة (كيكوز)* صغيرة لأخذها معنا لأننا سنحتاجها في مقاومة الجوع المنتظر وتركنا ما تبقى في مكانها الأصلي .
بعد أن وصلت المجموعة الثانية واستلمت حصتها من وجبة الطعام بدأ أفراد مجموعتنا بمواصلة المسير نحو (كه لي مه رانى ) وهي المحطة التي ستحدد وجهتنا ما بعد الوصول واللقاء ببقية الرفاق وما ستؤول إليه الأحداث .
اتفقنا مرة أخرى على أن لا نتوقف إلا في المقر عدا في الحالات الطارئة التي ربما تواجهنا ، فاستمر المسير إلى الصباح وسط قلق بالغ في الساعات الأخيرة منه بسبب تزايد أصوات الإنفجارات واقترابها أواستهدافها رفاقنا في المجموعة الثانية ولكنها لما كانت تطلق من مدافع قصيرة المدى والظلام لم يكن قد انقشع تماما فإنها لم تصب أهدافها وهكذا تبين أن طليعة قوات العدو بدأت تصل إلى مسافات قريبة من مقراتنا في( كه لي مه رانى ) حيث مقر لجنة محلية نينوى لحزبنا الشيوعي ومقر (سى ده را ) العائد للجنة الشيخان للحزب الديمقراطي الكوردستاني عبر منافذ (سوارى وسبيندارى ) وهما قريتان تابعتان إداريا لناحية سرسنك وتقعان إلى الغرب من مقراتنا و(كانيكا ) وهي قرية تابعة إلى ناحية أتروش وتقع إلى الجهة الجنوبية من مقراتنا .
وكان تقدم هذه القوات يتواصل عبر منافذ أخرى لتصفية القرى التابعة إلى ناحية زاويتة و سواره توكه وبعض القرى الأخرى التابعة إلى ناحية أتروش من جهتها الغربية إضافة إلى التقدم الواسع لقوات الجحوش في منطقة نهلة عبر باكرمان ودينارته في الجهة الشمالية من قضاء عقرة والتي تقع في جبالها ووديانها العديد من القرى التي تتصل في نهايتها بمناطق تواجدنا .
أما من الجهة الشمالية فإن قوات النظام كانت تتقدم جنوبا نحونا منطلقة من سرسنك ومعسكرات بامرنى والعمادية وديرالوك ، كل هذه القوات التي كانت تتقدم كانت تستهدف إضافة إلى القرى التي أشرنا إليها منطقة ( به رى كاره (*وقراها مع مقراتنا التي كانت تقع ضمن هذا الجبل من جهته الجنوبية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- (جه مانكى وباله ته وبازيركى ودزى)*هذه القرى كانت تقع على الطريق التي توصلنا إلى منطقة به روارى زيرى وكانت قريبة إلى مقرنا في بير موس.
- (بينارينكى وكاني باسكا وكابنيركى وخوربينيا وباك باكى وسوارى وسبيندارى وميزى وبانيا ته علا وجه مانى ) *مجموعة قرى تعود إلى منطقة به روارى زيرى وأيضا تقع على الطريق إلى مه رانى .
- (القرى البديلة )*عاشت الغالبية العظمى من سكان قرى مناطق به هدينان في مثل هذه القرى ، ولكنها كانت أصغر من القرى الأصلية وأقل كثافة سكانية لأن كل مجموعة عوائل كانت تبني لها مساكن في واد ما بالقرب من مزارع الفاكهة التابعة لهم ( ربما يقول محامو الدفاع عن الطاغية إذن كانوا في أصطياف ) على ( وزن إذن كانت رائحة الثوم التي كانت تشتريه من السوق وتستخدمه في البيت ) ، في الواقع لم يكن الأمر كذلك فكانت هذه القرى تعاني من نقص شديد في مستلزمات الحياة الضرورية ، وأقيمت لتجنب عمليات القصف المستمرة ويمكننا القول بأنها كانت متحركة ، فعند تعرض أحداها للقصف ينتقل أهلها إلى واد آخر لبناء قرية أخرى وكانت تحمي هذه البيوتات صخور كبيرة يجري السكن تحتها ، فعلى الإنسان أن يتصور كم كان حجم معانات الناس في ريف كوردستان أثناء حملة الأنفال القذرة هذه ...!!؟
- ( به رى كاره (* حوض جبل كارة ، وكم عظيما كان هذا الجبل وأهله ، استطاع في أحلك الظروف حماية الأنصار والبيشمه ركه ، وقدم سكان قرى هذا الحوض للثوار ما عجز عنه الآخرون عندما كان نظام صدام في أوج قوته ، كانت ضمن هذا الحوض القرى التالية ( ئيكماله – زيوكا شيخا – شيرانه – ردينيا - بهى - كووزى- به لووتى- زيوه – كارة – به ر كارة ) إضافة إلى قرى كانت تقع في وديان تشق هذا الحوض . وتشتهر هذه القرى بطيبة أهلها وكرمهم ومساندتهم للثوار . ولا ننسى أنها تنتج أفضل أنواع التبوغ وخصوصا قرية به لووتى .

يتبع

محطات من أنفال به هدينان - المحطة الثالثة


محطات من أنفال به هدينان

ناظم ختاري
(المحطة الثالثة )
إذن قوام لجنة غير مكتمل من الأنصار البيشمه ركه تشكلت منذ أيام معدودات يتواجدون في مقر (بير موس) والمنطقة كلها لوحدهم يراقبون أو ينتظرون تطورات الوضع وما ستؤول إليه الأحداث وينتظرون كذلك قرارا يصدر من اللجنة القيادية لمحلية نينوى يقرر مصيرهم أما البقاء لخوض معركة غير متكافئة مع قوات النظام التي يكفي قوامها لخوض معركة مع جيوش دولة أخرى بكامل عدتها وعددها وبهذا تكون أخطأت التقدير أو الانسحاب إلى الخطوط الخلفية وعندها يتقرر مصيرهم مع مصير بقية القوات المتواجدة في (مه رانى) وهذا ما كنا ننتظره في ظل وضع معقد وصعب جدا من الناحية العسكرية والسياسية أصبح كل شئ فيه لصالح النظام . إن لم تفاجأ هم هذه القوات المتقدمة في استغلال الفرصة وتوجيه ضربة كيماوية مميتة تبيدهم عن بكرة أبيهم قبل الانسحاب أو الدخول في أية معركة .
ورغم ذلك انشغل الرفاق في حياتهم الأنصارية اليومية ولكنه بحذر شديد وأضيفت إليها مهام أخرى ، و لم تغادرهم الشجاعة والعزم فيما لو قررت اللجنة القيادية الدخول في المعركة والتصدي كما في باقي المعارك لقوات النظام رغم الإدراك التام وكما قلت من أن هذه المعركة ستكون نهاية هذه المجموعة من الأنصار فيما لو دخلتها .. فكنت تجد من ينظف بندقيته أو من يحصن موقعه للقتال أو من يقرأ لعبد الرحمن منيف روايته مدن الملح أو غيرها من الروايات والأشعار لكتاب معروفين استزاد الأنصار منهم حبا لوطنهم وشجاعة للدفاع عن قضيتهم أمثال لوركا و همنغواي وطاهر الوطار وماركيز وتشيخوف والعشرات غيرهم من عمالقة الأدب العالمي ، وانشغل بعضنا أيضا في إخفاء بعض الأشياء التي كان ينبغي إخفاءها وآخرون في البحث وتقصي الأخبار ومعرفة ما كان يدور في هذه القرى القريبة من المقر وتيقنا بشكل قطعي إنها أصبحت فارغة تماما وتوجه سكانها صوب الحدود التركية أو الإيرانية وتيقنا إننا فعلا وحدنا هنا لا نجد بشرا غيرنا إلا نادرا عندما يمر شخصا عبر هذه القرى متخلفا عن أهله وهو يسرع اللحاق بهم وآخر يبحث عن وجهة أخرى تنقذه من مصير مجهول ، وعادة ما كانوا مرتبكين مذعورين ويؤكدون أن حملة إبادة فعلية بدأت في كوردستان وينقلون لنا أخبارا غير مترابطة حول قتال دار في كذا منطقة أو المنطقة الفلانية تعرضت لضربة بالأسلحة الكيماوية وما إلى ذلك .
و كانت تتخلل جميع أوقاتنا الكثير من النقاش وحول مختلف المواضيع فوجد بعض الأنصار عدم وجود أية حاجة لمثل هذا الاستعدادات وعلق أحدهم قائلا ونحن نخبئ هذه الحاجيات سنعود بعد فترة قصيرة فلماذا هذا الإخفاء المحكم لهذه الأشياء التي سنحتاجها بعد أن تتقهقر هذه القوات وتعود إلى مواقعها ثانية ؟ وآخرون تنبؤا وعبروا بوضوح عن قناعتهم بعدم وجود أية أمكانية للعودة إلى بير موس ثانية وممارسة الحرب البارتيزانية والعمل الحزبي في عمق الأراضي العراقية بما فيها بغداد التي كان يتحرك إليها رفاقنا من بير موس لإعادة بناء منظمات الحزب المدمرة أثناء الحملة التي قامت بها اجهزة القمع التابعة للنظام في سنة 1978. فتحققت نبوءة الطرف الثاني عندما قتل الفاشيست كل أنواع الحياة في ريف كوردستان مما حال دون القدرة على خوض مثل هذا الأسلوب النضالي إلا في مناطق محدودة وبصعوبة بالغة جدا ، و في نفس الوقت تحقق حلم الرفيق بالعودة إلى هذا المكان بعد أيام من مغادرته له ولكنه (حلمه) كان هذه المرة محفوفا بمخاطر جمة أقلها خطورة هو خوض معركة خاسرة ومواجهة خطر الموت ، و كانت هذه العودة في هذه المرة لأجل التسلل و اختراق مواقع العدو و تحصيناته وإيجاد منافذ للعبور إلى سوريا ، فلم يتسنى له أو لغيره من الأنصار البحث عن الأشياء التي جرى إخفاءها بل حتى المكوث في هذا المكان لأكثر من نصف ساعة من الوقت وذلك للتزود بالماء أو عدة ثمرات من الطماطم والباذنجان والشجر أو غيرها من مزرعتهم التي حرثوها بآلات يدوية بدائية وزرعوها لكي تساهم في أغناء وجباتهم الغذائية وهم يؤدون مهامهم الحزبية والعسكرية . وذلك لأن وحدات الجيش العراقي التي انتشرت بكثافة في عموم المنطقة كثيرا ما كانت تتردد إلى هذا المقر لغرض تفجير كل ما له علاقة بالبيشمه ركه. وتدمر حاجياتهم كالأرزاق و الأفرشة إضافة إلى الأسلحة و الأعتدة في حالة العثور عليها في مخابئها .
خلال هذه الأيام وفي ظل هذه الأوضاع المعقدة كان لنا رفاق آخرون يتواجدون في قرى وقصبات المنطقة كالشيخان وألقوش و(دوغات)* وبعشيقة وبحزانى وغيرها ، كان بعضهم مرتبطا بمواعيد العودة إلى المقر وكنا ننتظر عودتهم متمنين أن تكون مواعيد عودتهم متقدمة وأما الآخرون فلم تكن لديهم أية مواعيد للعودة وتوقعنا أن تدفع تطورات الأحداث بهم للمجيء والالتحاق بنا لأن بقاءهم في قرى وقصبات تخضع للمراقبة الشديدة من قبل أجهزة السلطة القمعية أمر محفوف بالمخاطر ويعرض الركائز الحزبية إلى الكشف وهذا يشكل كارثة كبيرة لأنه في مثل هذه الحالات لا تتوانى السلطة في استخدام أقسى وأبشع الوسائل ضدهم .
في صبيحة يوم الرابع والعشرين من آب أغسطس استلمنا برقية قصيرة من اللجنة المحلية تقول فيها ( تقرر انسحابكم فورا ) إذن كان هذا هو القرار الصحيح رغم تأخره بعض والشئ ولكنه أنقذنا من مصاعب و إرباكات جمة إن لم يكن سببا لخلاصنا من الموت المحقق ، وهكذا بدأنا نستعد للانسحاب رغم وجود رأي آخر هناك مفاده أن يتأجل الانسحاب إلى وقت مبكر من فجر اليوم التالي ولكن هذا الرأي لم يؤخذ به بسبب إدراك الغالبية أن الوقت أصبح متأخرا جدا وفي الوقت نفسه واجهتنا مشكلة أخرى في هذه المرة وهي موعد عودة أحد رفاقنا من ألقوش ففي حالة ترك المقر والانسحاب قبل وصوله سيصبح وضعه حرجا عندما لا يجدنا هناك . ومع هذا عملنا كل جهدنا من أجل أن نكون على أتم الاستعداد بعد الظهر من نفس اليوم لتنفيذ الانسحاب منتظرين على أمل أن يصل رفيقنا ومنشغلين ثانية بإخفاء ما لا نستطيع أخذه معنا بما فيه الأعتدة الزائدة وخصوصا كانت لدينا دابة واحدة نحمل على ظهرها كل ما نحتاجه .
هذه الصورة مأخوذة في قرية خورزان بعد أيام قليلة من تدميرها وتهجير سكانها
وكل شئ كان يسير بسرعة فمع استعدادنا للانسحاب أكمل الرفيق أبو فلاح استعداده للذهاب إلى الده شت والبقاء هناك وجرى الاتفاق بيننا على كلمة سر في حالة الاتصال به عند الحاجة وجرى تسمية الأماكن التي ينبغي أن يتواجد فيها وكذلك الأشخاص الوسطاء بيننا . وجرى الاتفاق أيضا على ضرورة الاتصال بالرفيق أبو ليلى الذي كان يتواجد في قرية (دوغات) كان برفقته الرفيق سامي وضرورة التنسيق معا في الحالات الطارئة وجرى تكليف الرفيق حميد لمرافقة أبو فلاح وعاش حميد بعدها قصة مثيرة استمرت لعدة أيام بعدما أضطر للتوجه إلى جبل (خورزان وكرسافا)* بعد أن تركه أبو فلاح مسلما نفسه للسلطة عبر وساطات من وجهاء المنطقة مقابل الحفاظ على حياته .
وضعنا خطة الانسحاب وأسرع عدد من الأنصار لإعداد وجبة غداء وكمية من الخبز تساعدنا في الطريق ، وتقرر ضمن الخطة أن ننقسم إلى مجموعتين تتحرك الأولى في تمام الساعة الثانية بعد الظهر وهي مجموعة صغيرة تتكون من 7 أو 8 أنصار كنت من بينهم وكان من مهام هذه المجموعة استطلاع الطريق والتأكد من سلامتها وكان على المجموعة الثانية و التي تتكون من مجموع الرفاق الباقيين وهم ملاك لجنة تلكيف الذين التحقوا بها قبل أن تكتمل بشكل نهائي ، أن تتحرك بعدها بعدة ساعات .
بينما كانت كل الاستعدادات تتم بشكل منتظم وصل رفيقنا القادم من ألقوش وبهذا فأن مشكلته لم تعد تواجهنا ، ودون أن يكون له موعدا وفي آخر ساعة وصل أحد رفاقنا العاملين في تنظيمات قضاء الشيخان إلى المقر منظما إلينا يحمل معه الكثير من الأنباء عن التحشدات العسكرية في الشيخان وأتروش .
- (دوغات)* قرية تابعة إداريا لناحية ألقوش - تلكيف سكانها أيزيديون ، انخرط العديد من أبناء القرية في صفوف الحزب الشيوعي منذ عقود طويلة ، والتحق العديد من أبناءها بصفوف الأنصار وقدمت العديد من الشهداء الأبطال وراحت العديد من عوائلها ضمن حملة الأنفال التي نتحدث عنها عبر هذه المحطات وسيجري الحديث عن كل ذلك بمزيد من التفاصيل . ومن الجدير بالذكر أن الغالبية العظمى من جماهير هذه القرية لازالت تلتف حول منظمة الحزب الشيوعي الكوردستاني العاملة هناك .
- (خورزان وكرسافا)* قريتان تابعتان أيضا لناحية ألقوش يفصلهما واد صغير ، في عام 1987 جرى ترحيل سكانها بشكل قسري إلى مجمعات شيخكة ونسيرية وسويت القريتان إلى جانب قرى طفطيان وكابارا وملاجه برا مع الأرض . وذلك بسبب تعاون سكان هذه القرى مع الحركة المسلحة في كوردستان من الأنصار والبيشمه ركه ومساهمتهم فيها بكل مباشر وقدمت هذه القرى بدورها العديد من الشهداء بينهم عدة عوائل ضمن حملة الأنفال كنت على معرفة مباشرة بهم مع وجود علاقات عائلية وثيقة بيننا ، وقبلها تعرضت هذه القرى في العديد من المرات إلى التدمير والغارات المتكررة لقوات النظام البائد .

محطات من أنفال به هدينان - المحطة الثانية


محطات من أنفال به هدينان

ناظم ختاري
(المحطة الثانية )
إذن كان علي أن أعود بسرعة والالتحاق برفاقي لأن الجميع تيقن وأنا كنت معهم في هذا اليقين من أن العمليات العسكرية الفعلية بدأت في مناطقنا وإنها تختلف هذه المرة عن سابقاتها التي كان يتقدم فيها الجيش والجحوش لغرض تحقيق أهداف محددة عبارة عن الاعتداء على بعض القرى أو المقرات أو ملاحقة مفارز البيشمه ركه ،أما هذه المرة فان الحرب التي أنهت عامها الثامن وضعت أوزارها وتوقفت بعد أن أشغلت العالم وأحرجت القوى السياسية العراقية عندما أرتبكت في رسم سياساتها وأهدافها ووضع شعاراتها إزاءها ، فعملت بعضها في مراحل معينة مباشرة مع القوات الإيرانية في عمق الأراضي العراقية وحددت الأخرى موقفا مناهضا للحرب كما كان الحال عندنا في الحزب الشيوعي الذي رفع شعار إنهاء الحرب وإسقاط الدكتاتورية ، وبالرغم من أن إنهاء الحرب أو استمرارها لا يتوقفان على شعار يرفعه الحزب ، كونها كانت أكبر من أن تكون حرب صدام ضد دولة جارة فأن الموقف منها كان ينبغي أن يأخذ بنظر الاعتبار طبيعة النظام العدوانية والتي أوصلت الأوضاع في البلاد إلى ما هي عليها الآن وهي تتوغل في حرب طائفية غير معلومة النتائج ونيرانها أصبحت تتصاعد مشتعلة وهي تطحن بالعراقيين في طاحونتها و تحرق وتدمر ثروات البلاد بشكل جنوني ، فأن قاعدة الحزب وخصوصا الأنصار وأزعم إن منظمات الحزب في الداخل هي الأخرى ارتبكت ووجدت عدم دقة هذا الشعار كون وقوفها (الحرب) سيعطي للنظام الفرصة الكافية للقضاء على المعارضة بنفس تلك القوة القادمة من جبهات الحرب ، وفي نفس الوقت فأن استمرارها يعني استنزاف المزيد من الطاقات البشرية إلى جانب ثروات البلاد وبنيتها التحتية . ولذلك كانت تدور نقاشات حامية في الهيئات الحزبية المختلفة وفي الاجتماعات العامة ترفض فيها قاعدة الحزب وجماهيره الحجج التي كانت قيادة الحزب تتكأ عليها وتسوقها وهي ترفع هذا الشعار وتدافع عنه ، وهي أن فرص سقوط النظام ستزداد عندما تواجه هذه الأعداد الهائلة من الجنود المسرحين والقادمين من حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل ، إضافة إلى المأساة التي خلفتها هذه الحرب من تفاقم في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وعدم قدرة النظام على مواجهتها ومعالجتها، إلى جانب جملة من الأمور الأخرى من مخلفاتها ، كلها مجتمعة ستشكل عوامل ضغط لا يستطيع النظام مقاومتها وينهار بسبب أعباءها .
وكان هاجس القضاء على قوات الأنصار والبيشمه ركه يشغل بال الدكتاتورية بالرغم من انشغالها في هذه الحرب التي طحنت أرواح مئات الآلاف من الشبيبة العراقية ولذلك فأنها لم تكن تتوانى في استخدام كل ما لديها من إمكانيات ضد مناضلي الحرية في كوردستان ، ولأجل ذلك كانت تجند المزيد من وحدات الجحوش تحت اسم الأفواج الخفيفة أو أفواج الدفاع الوطني المتكونة عادة من العشائر الكوردية ( رؤساء الغالبية العظمى من العشائر الكوردية ساهموا أو شاركوا في هذه الوحدات وجندوا أفراد عشائرهم ضمن هذه التشكيلات ) علاوة على إشراك قوات الأمن العراقية ووحدات من أعضاء حزب البعث في ما يسمى بالجيش الشعبي في المعارك ضد هذه القوات.. وكان من المستحيل اقتلاع هذه القوات من أرض كوردستان ما لم تستطع السلطة الدكتاتورية القضاء على المصدر الأول والأهم لإدامتها ورفدها بالدماء الجديدة ولذلك قررت القضاء على جماهير المنطقة واقتلاعها من قراها ، وثمة حاجة إلى القول أن السلطة أدركت إنها لا تستطيع تحقيق هذا الهدف دون أن تستخدم سلاحا جديدا وفتاكا ألا وهو السلاح الكيماوي الذي لا يستطيع جسد الإنسان مقاومته حتى لو استطاعت إرادته ذلك ، لأن هذه الإرادة الفولاذية الحقة وقفت قبل ذلك عائقا أمام مخططات السلطة وأسلحتها التقليدية في القضاء على الحركة المسلحة في كوردستان .
هكذا عدت إلى مقر بير موس مرة أخرى وبرفقة رفيق آخر كان قادما من الداخل من أحدى أقضية نينوى أضطر هو الآخر للتوجه إلى المقرات لنقل تصوراته إلى قيادة اللجنة المحلية ، وإن لم أخطأ التقدير كان ذلك في 19- 8- 1988 وسرعان ما أبلغنا الرفاق بتصوراتنا عن تطورات الوضع والتحرك العسكري المكثف والغير اعتيادي بالنسبة إلى قوات النظام من الجيش والجحوش بكامل معداتها قادمة من حرب يائسة لم تحقق فيها شيئا غير جر وطننا إلى المزيد من الخراب وشعبنا إلى المزيد من الويلات ، طليعتها كانت في زاخو تنتشر وتتوجه صوب أهدافها ونهايتها تتمول بالمزيد من الوحدات عند الأطراف الشمالية من مدينة الموصل حسب شهود عيان تحدثوا لنا في تلك الفترة . بقيت مع أنصار لجنة تلكيف في بير موس فيما واصل الرفيق الآخر مشواره نحو (مه رانى ) و كان لابد لنا أن نبلغ قيادة اللجنة في (مه رانى) بتفاصيل ما يدور وما تقوم به السلطة من تحشيد لقواتها لتحقيق هذه الأهداف التي أشرنا إليها في سياق الحديث .
وكان من بين مقترحاتنا التي أرسلناها في برقيات لاسلكية متتالية ضرورة الإسراع بإنقاذ عوائل الأنصار المتواجدة هناك في المقر ومحيطه وإرسالها صوب الحدود ، وفي نفس اليوم تلقينا برقية جوابية تؤكد أن القيادة أصبحت تشكل مجاميع من هذه العوائل وترسلها عن طريق ( آشه وه)* باتجاه الحدود التركية ، ولكن تبين فيما بعد أن الوقت كان متأخرا وعادت هذه المجاميع ثانية إلى (مه رانى) عندما وجدت إن كل الطرق مغلقة بوجهها تماما بوحدات الجيش والجحوش العراقيين .
صرنا نتباحث في ما يحصل كثيرا ولم يخطر في بال بعضنا أن ننسحب إلى الوراء أبدا وفي الواقع كنت أنا من بين الذين يدركون بوضوح بأننا سنضطر إلى الانسحاب باتجاه الحدود مع تركيا أو إيران ولكننا لم نتوقع أن ننسحب على الأقل في الأيام الأولى دون أن نتصدى فيها للقوات المتقدمة أو إشغالها لكي لا نضطر إلى إنسحاب تحت ضغط الهلع والخوف وتوفير الفرص اللازمة لقواتنا الأخرى على الانسحاب بسلام وهم بدورهم يعملون على تغطية انسحابنا أيضا في المناطق الحدودية ..وهكذا كان أنصارنا التقوا لعدة مرات بمفارز الحزب الديمقراطي الكوردستاني المتواجدة في المنطقة و مفارز المقاومة الشعبية (به ركرى ملى )* ووضعوا خططا حسبما عرفت منهم ، مفادها كيفية مقاومة القوات المتقدمة وتشخيص مواقع المعارك المحتملة و المفارز التي تتصدى للقوة التي تتقدم من كل جهة ، والأمر كان إلى هنا يعد جيدا وهو أن تتوحد جميع المفارز للتصدي لهذا الهجوم الشرس ، ولكن الأمر الذي عكر صفوة كل هذه الخطط هو الاختفاء التدريجي لمفارز حدك والمقاومة الشعبية التي صرنا نسأل عنها و لا نجد إلا القليل من أفرادها يتوزعون بين هذه القرى لا يعرفون الكثير عن ما يدور غير القلق والحيرة حتى صرنا لا نجد أحدا قبل يومين من انسحابنا .

محطات من أنفال به هدينان - المحطة الأولى


محطات من أنفال به هدينان
(المحطة الأولى)
ناظم ختاري
بعد أن قررت قيادة حزبنا الشيوعي العراقي دمج التنظيم المحلي مع وحدات قوات الأنصار في منتصف عام 1988 قبل إيقاف الحرب العراقية – الإيرانية التي كان الحزب يدعو إلى إنهائها .. وبعدما كانت منظمات الحزب المدنية ( الكوادر العاملة في هذه المنظمات ) تعمل منفصلة عن الوحدات العسكرية كان بينها تنسيقا لم يكن يرتقي إلى مستوى المهام الملقاة على عاتق الجانبين ، تشكلت بعد ذلك مباشرة مفاصل عمل أخرى وهنا أنا أتحدث عن المنطقة التي كنا نعمل فيها وكانت مقراتنا تتركز في (كه لي مه رانى)* كان يعمل فيها الفوج الأول لأنصار الحزب والذي كان يعمل عسكريا في حدود المناطق المحيطة من جهة الشمال الشرقي بمدينة دهوك وثم مناطق (د ه شت الموصل)* وبالتحديد شيخان و تلكيف ومناطق أتروش وعقرة ولم تكن مفارزها تتلكأ في الوصول إلى أية منطقة أخرى عندما كانت الحاجة تتطلب ذلك .و من الجدير بالذكر أن مفارز هذا الفوج حققت العديد من الانتصارات في عملياتها العسكرية استطاعت من خلالها توجيه ضربات موجعة في مناطق مختلفة من التي جاء ذكرها أعلاه لقوات العدو وأجهزته القمعية وكانت تحظى هذه المفارز بتقدير جماهير المنطقة واحترامها ، وقدمت في هذا السبيل تضحيات غالية عندما فقدت في معاركها العديد من الأنصار الأعزاء والأبطال ، وفي الواقع كان هذا هو الثمن الذي يقبل به كل نصير بطل عمل في أية وحدة عسكرية تابعة للحركة الأنصارية للحزب الشيوعي العراقي .وكذلك كانت هناك لجنة محلية نينوى وهي هيئة حزبية كانت تقود العمل الحزبي التنظيمي والسري على مستوى المحافظة بالإضافة إلى مهام أخرى كانت تتكلف بها من قبل قيادة الحزب وطبقا لهذا القرار والذي كان يعتبر مطلبا ملحا للغالبية العظمى من الرفاق الأنصار تشكلت هيئة قيادية موحدة تقود العمل في الجانبين كان يعمل فيها رفاق يمتلكون خبرات تنظيمية وآخرين أصبحوا قادة عسكريين مجربين في معارك هامة مع قوات النظام . وسميت هذه الهيئة من جديد بلجنة محلية نينوى أنيطت مسؤوليتها الأولى( بأبو سالار) لبيد عباوي الذي كان عضوا في اللجنة المركزية للحزب وأنيطت مسؤوليتها العسكرية بالرفيق توفيق ( خيري درمان ) وتوزعت المسؤوليات الأخرى على رفاق آخرين كانوا ضمن هذه اللجنة ربما يقودنا الحديث لاحقا الإشارة إلى أسماءهم أو أدوارهم وخصوصا إننا عملنا معا فيما بعد واضعين الخطط حول كيفية التخلص من حصار قوات الجيش والجحوش مع العديد من الرفاق ، وقد أمتنع عن ذكر بعض الأسماء تحسبا لهذه الظروف الغير طبيعية في عموم العراق .والجدير بالذكر ارتبطت بهذه اللجنة لجان موحدة تقود العمل العسكري والتنظيمي على مستوى الأقضية لم يكتمل نصاب أية لجنة منها غير لجنة تلكيف التي أتمت ترتيباتها قبل الآخرين ، وعلى أثر هذه التغيرات التي أخذت وقتا ليس بقصير وجهدا كبيرا كلفت للعمل في لجنة تلكيف التي أصبحت تعمل انطلاقا من مقر (بير موس) وهو من المقرات القديمة يعود تاريخ العمل فيه إلى فترة الستينيات عندما كان رفاق الحزب يشاركون الشعب الكوردي انتفاضاته المسلحة فارتبط اسم هذه القرية ببطولات الشيوعيين ومآثرهم وكان ينطلق منها الشيوعيون نحو القرى والمدن لبناء خلايا حزبية فيها . وأستطاع الأنصار قبل عملية الدمج أعادة تأهيله لممارسة العمل البارتيزاني وها صرنا ننطلق منه لمواصلة بناء وتقوية منظمات الحزب في مناطق (الده شت) بعد عملية الدمج .وثمة حاجة إلى القول بأن هذه منظمات (الده شت) كانت بحق من المنظمات الحزبية النشيطة وخلال مسيرتها استطاعت تحقيق الكثير ولم تكن تدخر جهدا في المبادرة لتنفيذ مهامها إلى جانب تلك التي كانت تكلف بها من قبل الهيئات الأعلى وكانت خدماتها بالنسبة إلى الحزب عظيمة وتشكل عصبا مهما فيه .كلفت ضمن هذه اللجنة بقيادة العمل التنظيمي في حدود القضاء مع رفاق آخرين وكانت اللجنة بقيادة الرفيق أبو ظاهر وكان بين رفاق هذه اللجنة أيضا الرفيق أبو أمل الذي كلف بمسؤولية اللجنة في الجانب العسكري وكان ضمن هذه اللجنة رفاق آخرين مكلفين بمهام أخرى يتطلبها عملنا الأنصاري والتنظيمي . وهكذا بدأنا بترتيب أمورنا ووضع خططنا العملية للتحرك وفقها في المستقبل وربما كان هناك بعض الخلل يرافق عملنا لأن تجربة العمل المشترك كانت جديدة وفي بداياتها وكانت تحتاج إلى وقت أطول لإيجاد أفضل السبل للعمل والتناغم معها ، بالرغم من أن الغالبية من الرفاق والأنصار كانت تجيد الكثير في مجال العمل العسكري والتنظيمي ومناورة العدو ، ومن هنا أصبحت الأمور تسير و تترتب بشكل معين .ورغم أن وتيرة الضربات الموجعة والموجهة ضد مختلف مناطق كوردستان وقوات الأنصار والبيشمه ركه من قبل قوات الجيش العراقي التي بدأت تنسحب من جبهات الحرب مع إيران كانت تتصاعد بشكل جنوني بات فيها استخدام الأسلحة الكيماوية أمرا معروفا ، صار(صارت) كل واحد أو مجموعة منا يتوجه (تتوجه) إلى عمله (عملها ) بعد الاجتماع الأول للجنتنا وكان هذا في منتصف شهر آب أغسطس . حينما توجهت إلى حيث عملي في عمق ريف تلكيف وذلك لمتابعة العمل الحزبي وترتيبه في هذه القرى والذي كان يمتاز بدرجة عالية من الانضباط والمتانة والذي عصى على أجهزة أمن النظام لاختراقه . وبالنسبة لي لم أكن أحتاج إلى إجراءات تنظيمية أستلم بواسطتها التنظيم مجددا فرغم انقطاعي عن المنطقة لفترة معينة التقيت بسهولة برفاق المنظمة ( لجان مصغرة وخلايا وعلاقات فردية أو خيطية ) ، ولكن الأمر في كل اللقاءات التي أجريتها كان مختلفا هذه المرة فكان هناك خشية شديدة من تحركات السلطة وما ستؤول إليه هذه التحركات ، وجدت جميع الرفاق في هذه الخلايا يشتركون في حدس واحد هو أن السلطة الدكتاتورية عازمة هذه المرة على إنهاء وجود حركة الأنصار والبيشمه ركه ومن خلال القضاء على الحياة في ريف كوردستان ولذلك كانوا يعيشون قلقا كبيرا على مستقبلهم ومصيرنا ويتوقعون تصاعدا خطيرا من قبل أجهزة النظام القمعية لملاحقة تنظيمات الحزب وجماهيره في مختلف المناطق بموازاة بدء حملة تطهير كوردستان من الأنصار والبيشمه ركه ، وتصاعدت مطالبة هؤلاء الرفاق بتصميم ودراية تامة على ضرورة الانسحاب إلى خلف الحدود وإنقاذ حياة البيشمه ركه وعوائلهم وحياة جماهير المنطقة التي ستتعرض إلى الهلاك والدمار .ومن الواضح أن إجلاء سكان ريف كوردستان من أرض آباءههم و أجدادهم إلى أرض دولة أخرى ووسط هذه الحشود العسكرية التي عملت على قطع كل الطرق المؤدية إلى داخل الأراضي التركية قضية في غاية التعقيد وبقاءهم متشبثين بأرضهم يعد هو الآخر شبه انتحار جماعي، وخصوصا بعدما تأخر الوقت ولم يعد لصالحنا في مناطق كثيرة كما كان الحال عندنا في بهدينان ..!! ويمكنني الحديث عن هذه المسألة في المحطات التالية بشئ من التفصيل لأن هذا الأمر كان على صلة وثيقة بقرارات وإجراءات غير متأنية اتخذت في خضم الحدث . مكثت هناك في هذه القرى أياما قلقة مرت سريعا و أجبرتني تصاعد ورود أخبار سيئة من جميع المصادر حول الأعداد الهائلة من قوافل الجيش العراقي التي كانت تتوجه إلى كوردستان بكافة أسلحتها قادمة من جبهات القتال مباشرة لتنفيذ هذه الجريمة التي أصبح يدرك خطورتها البالغة كل المواطنين . زرت خلال هذه الأيام أهلي وكانوا يشاركون كل الذين التقيتهم الإحساس بخطورة الوضع وأبدوا قلقا بالغا لمصيرنا المجهول وخصوصا كانت تربطهم علاقات وثيقة بأعداد كبيرة من العوائل الموجودة في الحصار وأبناءهم الأنصار قبل التحاقهم بصفوف البيشمه ركه ، ودعتهم وهم يقولون وكيف سيكون الأمر بالنسبة لك ..؟ فقلت لهم ما كانوا مقتنعين به تماما وهو أما سأتحرر من قبضة عساكر النظام وعندها ستكون وجهتي الخارج ، وأما سأقع في فخ لهم وعندها تكون النتائج معروفة . وهذا ما أحزنهم أشد حزن .- (كه لي مه رانى)* كه لى ( وادي) .. مه رانى قرية تقع ضمن هذا الوادي تركها أهلها قبل سنوات طويلة من تأسيس مقرنا فيها ، سأحاول ضمن هذه المحطات الحديث عن بدايات تأسيس مقرنا في هذه القرية . - (د ه شت الموصل)* سهل الموصل وأستخدمت كلمة الده شت في التعامل اليومي والمخاطبة بشكل طبيعي إلى جانب العديد من الكلمات الكوردية من قبل رفاقنا العرب وكذلك في الكتابة سواء من قبل الكتاب الأنصار أوالمجالات الأخرى.