الأربعاء، 7 مايو 2008

محطات من أنفال به هدينان - المحطة التاسعة


محطات من أنفال به هدينان
ناظم ختاري
(المحطة التاسعة)
يروي العديد من الرفاق الأنصار إنه عندما احتلت قوات النظام قرية كافيا وأغلقت الطريق أمام سكان القرى و قوات البيشمه ركه وبعد تراجعهم والتجمع في نهاية كه لى كافيا قريبا من قريتي (جه م جال وجه م شيرتى)* طرح البعض فكرة تسليم جميع العوائل إلى هذه القوات عبر وساطات ينفذها بعض الوجهاء مع رؤساء الجحوش وهم بدورهم ينفذون الاتصالات مع ضباط الجيش حول هذا الأمر وفيما إذا كان هذا التسليم لا يلحق الضرر بهؤلاء السكان وبعد أن تم التحرك على هذا الأساس وسط رفض العديد من البيشمه ركه تسليم عوائلهم تحت أية ذريعة كانت جرى الاتصال بأحد الضباط المسئولين عن القوات التي كانت تحاصر هذه المنطقة الذي أجابهم بقوله ، لو جاء هؤلاء الناس وسلموا أنفسهم وتقرير مصيرهم كان بيدي لعملت كل ما بوسعي للحفاظ على حياتهم ، ولكن هناك توجيهات صارمة صادرة من صدام حسين بشكل شخصي تؤكد على قتل كل من يلقى القبض عليه أو يسلم نفسه سواء كان مسلحا أو غير مسلح أو كان رجلا أو امرأة أو طفلا . وهذا ما دفع هؤلاء الناس إلى الاحتماء بجبل كارة الذي نتحدث عنه ضمن هذه الحلقات ، إن هذه الواقعة أحدثت تصورات متفاوتة لدى المحاصرين ولكن النتيجة كانت واحدة في رؤى الجميع فوجد البعض أن هذه القوات المتقدمة تريد جمعهم في منطقة محدودة لكي يساعدها ذلك على الانقضاض عليهم بسهولة وآخرون صدقوا ما قاله الضابط عن الأوامر الصادرة من صدام حسين مباشرة بشأن القضاء على كل من يسلم نفسه أو يجري إلقاء القبض عليه لأنهم كانوا يعرفون جيدا الطبيعة العدوانية لشخص صدام حسين ، وفي الواقع لم يكن هناك غير خيار التسليم أمام هذه الأعداد الكبيرة من العوائل وخصوصا بالنسبة إلى سكان هذه القرى الذين سيتعرضون إلى البرد والجوع والعطش والأمراض .
في كل الأحوال وجد المحاصرون إنهم في وضع حرج وأمام خيار واحد لا غيره وهو الموت المحقق على يد هذه القوات سواء سلموا أنفسهم أم بقوا محاصرين في كارة ، فعند التسليم أصبح واضحا لدى الجميع أن هناك أوامر صادرة من صدام نفسه تدعو إلى قتلهم أو على الأقل أن هذه القوات رفضت قبول الاستسلام وهذا يعني إنها تبيت لهم نية القتل لا غير ، ولذلك عند البقاء اضطرارا في هذا الحصار كان الجميع تراوده فكرة أن هذه القوات سوف تقضي عليهم على حين غرة بواسطة أسلحة كيماوية ، أو سيموتون جوعا أو عطشا أو بردا أو مرضا مع استمرار الحصار المفروض عليهم .
في الحلقات السابقة حاولت الإحاطة بكل ما كان يحيط بالقضية من قرارات سياسية وعسكرية التي فشلت في تحقيق أهدافها أمام إصرار قوات النظام على فرض إرادتها وتحقيق مخططها في القضاء على الحياة في ريف كوردستان من خلالها تفريغها من السكان وهدم قراها وردم عيون المياه والقضاء على ثرواتها ( الحيوانية والنباتية ) . وفي الحلقات القادمة سأبذل جهدي للحديث عن جوانب أخرى أعتقدها مهمة لكي يستطيع القارئ الكريم التواصل معنا ونحن في هذا الحصار الذي أصبح يهدد حياة الآلاف منا بكل شراسة .
استمر تدفق الناس إلى هذا المكان من جبل كارة إلى ما وراء الظهيرة وبقيت العديد من المجاميع في أماكن أخرى متفرقة من نفس الجبل خشية من أن يكون التجمع في منطقة ضيقة هدفا سهلا لهذه القوات .
بعد أن التقينا العديد من الرفاق والأنصار و عوائلهم وسكان هذه القرى المحاصرين وبعد أن استمعنا إلى قصص العديد منهم توفر لنا ما يكفي من الوقت للراحة والنوم ، وكان واضحا أن الموقع الذي كنا نتجمع فيه منذ أمس البارحة وصباح اليوم الباكر لم يكن مناسبا لقضاء الليل فيه ولم يكن سوى بمثابة المحطة الأولى للتجمع بعد التراجع أمام تقدم قوات النظام ، وكان واضحا أن هذه العوائل ستحتاج إلى الدفْ في الليل فليس من السهل أن يعيش الإنسان في مثل هذا الوقت ليلا دون نار أو شيئا يتدثر به ، فلم يكن بالإمكان إشعال النيران في هذا المكان كونه كان يقع مقابل تجمعات القوات المتقدمة فبذلك يمكن لهذه القوات النيل من هؤلاء المحاصرين بواسطة قصفها أي لو أقدمت على إشعال النيران لأنها ستصبح هدفا معلوما ، لذلك كان لابد من التنقل إلى منطقة أخرى تتوفر فيها هذه الإمكانية في الليل للاتقاء من برد قمم كارة ... فاستعد كل هذا الكم من البشر لشق الطريق إلى واد يقع بالقرب من هذه المنطقة خلف قرية ئه ركنى وفي أعاليها ورغم كل ما كان ينتظر هؤلاء المحاصرين وجدوا أنفسهم نشطين بعد أن أكتمل وصول أغلب أفراد هذه العوائل إلى هذا المكان وبعد أن استطاعوا الحصول على وقت مناسب للراحة ، فشدوا الرحال بسرعة وتحركوا بحيوية وسط غابات كارة الكثيفة في هذه البقعة التي لم تتعرض للحرق بعد وعبر وعورة المنطقة التي مررنا بها كونها كانت غير مطروقة ولكن مرور هذه الأعداد الكبيرة من الناس مع حيواناتهم عبرها حولتها إلى طريق قابلة للتنقل السهل سيرا على الأقدام . لم تكن المسافة بين المكانين طويلة جدا ولم تكن تحتاج إلى الكثير من الوقت لو كانت الطريق إليها مفتوحة أو مطروقة من قبل و كون أعداد المحاصرين كانت كبيرة والطرق وعرة فإنها أخذت شيئا من الوقت .
كنت تجد في هذه المسيرة النشاط والحيوية لدى الشباب وهم يبذلون الكثير من الجهود لمساعدة الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى ويحملون عنهم أمتعتهم ، وفي نفس الوقت كان المرء يتملكه الحيرة وهو ينظر إلى هذه الحشود المحاصرة من البشر وهم يخوضون هذه الطريق للإتنقال إلى مكان أفضل وأكثر أمنا .. وكأنه كان يريد أن يقول هل سيكون هذا الأمان الذي يبحثون عنه متوفرا وقادرا على حماية أرواحهم إلى النهاية أم إنه مجرد هروب من مواجهة المصير المحتوم .. أم كان في ذلك نوعا من أنواع المقاومة .. رغم معرفة عواقبها .. كون العدو لم يترك لهذه الأعداد الكبيرة أي خيار غير تهديدها بالقضاء عليها ..؟ ، كما أوضحنا ذلك في البداية .
قبل الغروب صرنا نبحث في الموقع الجديد لنا عن أمكنة تساعدنا على إشعال النيران فيها لكي تقينا من البرد ومواقع سهلة على محاولة التخلص من أي هجوم طارئ . فعسكر الجميع في هذا الوادي الذي يقع في منطقة عالية من جبل كارة وخلف قرية ئه ركنى وهب المحاصرون لقطف أغصان أشجار البلوط كي يصنعوا منها أفرشة أمتاز المقاتلون البيشمه ركه بصناعتها في أوقات الراحة والنوم تحت ظلال الأشجار بعد تنفيذ عملياتهم العسكرية أو أنشطتهم السياسية ، والآن أصبح أهالي هذه القرية الكبيرة المختلطة المحاصرة يستخدمونها لقضاء أيامهم في قمم ووديان هذا الجبل ... ويصنعون مواقدا للنيران التي أضاءت في الليل هذا الوادي كما تضئ الأنوار الطبيعية أية مدينة حقيقية .. فلو كنت تريد أن تنسى أن جيشا كبيرا يحاصرك أو إنك معرض للهلاك أو كنت تريد أن تنسى ما كنت تشاهده من مواقف محزنه أثناء النهار أو تضع تصوراتك جانبا عن هذه الحملة الشرسة وعواقبها لكان المنظر جميلا .. ففي نوبة الحراسة في قمة جبلية تسيطر على هذا الوادي .. كنت تشاهد المكان واسعا وعبارة عن حوض دائري له مخارجه تبدو شبيهة بطرق تؤدي إلى أماكن أخرى ، وكان المكان والذي سرعان ما تحول إلى قرية فيها بشرا مشردون ، يبدو وكأنه جرى تصميمه وفق طرق هندسية تلائم طبيعة الجبل وأنشأت فيه هذه المدينة الجميلة وفق طراز متطور في هذه المنطقة الجبلية من كوردستان فكانت النيران المشتعلة من أجل أن تتدفأ هذه المجاميع البشرية بها وكي تستطيع النوم على هذا الدفء . كانت هذه النيران ومنظرها تأخذ المرء إلى عالم جميل طالما كان يحلم به حتى في هذا الحصار .. فكانت تتلألأ كمصابيح مدينة هادئة تبدو للمرء وكأنها مدينة غربية أوروبية يجري تجربة بناء مثيلاتها في كوردستان وإنها المدينة الأولى في هذا المكان ، وأن الأدخنة المتصاعدة من هذه النيران ما هي إلا وإنها تنبعث من مدا فئ بيوتها الهانئة ومراقصها وحاناتها المزدحمة بالناس وضجيجهم وقد كان المرء أمام هذه الأنوار وهو يتخيل ألحانا ويتمازج معها وكأنه يسمع حقيقة دقات الدفوف والمزامير وآلات الموسيقى المختلفة وأصوات الراقصين التي تستمر إلى صباحات هذه المدن ، ثم يستمر متابعة كل شئ حتى عندما يهم الناس ويتفرقون فرادا و مجاميع يتوجهون إلى بيوتهم بواسطة قطارات الأنفاق ووسائط النقل الأخرى للنوم طويلا استعدادا ليوم عمل أو دراسة أو ما إلى ذلك ، من دون أن يخدش صوت إطلاقة واحدة تسلل هذه الألحان إلى سماع المحتفلين أوأن يحدث انفجار ويعكر صفوة سهرتهم الجميلة ... غير أن البرد عندما كان يشتد وهو يتسلل هادئا إلى جسد المرء كان يتلذذ به ويتحمله ولكنه كان يقطع حلمه هذا ناقلا المرء إلى حلم أو عالم آخر وهو يقاوم البرد وكأنه في لقاء حبيبته ويقص لها كيف سيجعلها سعيدة في بلاد ليس فيها غير الورود والزهور والحان الجميلة .. أو أحدا من أفراد عائلته الذين غاب عنهم منذ سنوات طويلة تحت ضغط ملاحقة أجهزة أمن السلطة فيقص له كيف سيقضي مع مناضلي الحرية على نظام الظلم والقتل والسجون والتعذيب وينهي الملاحات ويوفر للناس المعدومين عيشا رغيدا .. ولكنه مضطرا كان يتذكر أن قوات هذه السلطة نفسها تفرض عليه الآن طوقا وإنه يعيش في حصار بسبب صوت انفجار قادم من محيط حلقة حصاره ولا يهم من أية قرية كانت في المنطقة ، فجميعها أصبحت تقع تحت سيطرة الجيش والجحوش وتتعرض إلى التفجير ورغم ذلك يستمر وهو يطلق العنان لتخيلاته الجميلة ولا يريد أن يبرحها رغم إدراكه إنها غير قابلة للتحقق في عراق يحكمه الوحوش والضواري وهم يحاصرونه في هذا الجبل .. ثم ما يلبث ويعي هذه الحقيقة التي يعيشها فتتحول بقية وقت نوبة حراسته إلى زمن يضغط عليه للتفكير بأشياء كثيرة .. بأصدقاء طفولته أو دراسته وما كان يفكر به من أجل مستقبله أو يتحول إلى التفكير بوضع خطط لإيجاد مخارج وإنقاذ هذه القوات وعوائل الأنصار الذين عاش معهم ظروفا بالغة الصعوبة وفي أوقات مختلفة .. كان بينهم أطفالا عوضوه بعده عن إخوته وأخواته الصغار أو ربما أبناءه وبناته وهو يلعب معهم في فسح مه رانى وتحت ظلال أشجار جوزها التي كانت تتعدى الـ 100 شجرة ، توفر بثمارها الوفيرة وجبات فطور تكفي لشتاء كامل ، يوزعها الخفر (الخدمة الرفاقية ) على الأنصار في كل صباح ولكل واحد منهم ربما عشر حبات منها مع كوب من الحليب بقرار يتخذه الرفيق أبو (حازم الإداري) وينفذ بصرامة .. أتذكر عندما حل الرفيق النصير (أبو خدر)* في المقر بعد عودته من مهمة ما وجد أن عائلة الشهيد (أبو فؤاد )* قد انتقلت للسكن في المقر في أحدى الغرف التابعة للتنظيم المحلي فذهب إلى ابنته الصغيرة (سورياز)* البالغة من العمر سنتين فقط وذلك لنيل صداقتها فوجده الرفيق النصير أبو سربست وقال له عبثا تحاول ذلك لأنها بالتأكيد تخاف من شورابك وثم فهي لا تقبل اللعب مع أحد غير ناظم أو أنصار محدودين جدا . فأجابه أبو خدر سأجرب حظي وأحاول ، وبعد فترة قصيرة عاد أبو سربست فوجدهما يلعبان معا فتعجب بسبب ذلك وكونه لم يستطيع الظفر بصداقتها بعد ما حاول كثيرا .. وكان بين هذه العوائل شابات وشباب يشاركوننا الأفراح ويحولونها إلى مهرجانات عائلية ... فكان هناك من يشارك في فرق الأنصار الغنائية وآخرين في الفرق المسرحية وكان بينهم شعراء صغار يمارسون هوايتهم في إلقاء قصائدهم في هذه الأفراح كعيد تأسيس الحزب و نوروز و رأس السنة الميلادية وغيرها من الأعياد التي أعتاد الأنصار أحياءها في كل سنة بفرح غامر واستعدادات مسبقة يشارك فيها الجميع على هيئة خلية نحل نشطة.. وأيضا كان بين هذه العوائل نساء وقفن كالأبطال خلف أزواجهن وأولادهن وأخوتهن لمواجهة الدكتاتورية .. عملن كل شيء من أجل المواصلة ، امتنعن أن يكن عوامل تثبيط لمعنويات الأنصار حتى في أحلك الظروف ناهيك عن ما تحملن من مصاعب حياتية من الجوع والبرد والسكن الغير لائق والعوز المادي وما إلى ذلك دون تذمر.
ولكنك لو كنت تجرب التجوال بين هذه التجمعات البشرية في نفس تلك الليلة لوجدت حقيقة أخرى تعبر عن مدى وحشية نظام أجبر هؤلاء الناس على هذه المعانات فالرجال كانوا يدفعون بالمزيد من الحطب في نيران أشعلوها كوسيلة للحفاظ على حياة أطفالهم ونساءهم من برد كارة ، ورغم ذلك فإنها لم تكن تف بالغرض في الغالب لأن النوم أمام مواقد نيران الحطب في العراء لن يكون سهلا كون المرء يتعرض في احد جنبيه إلى الحرارة الشديدة وفي الجنب الآخر إلى البرد الشديد لأنه لا يوجد ما يتدثر به غير ملابسه التي يرتديها ولذلك يستمر في التقلب إلى الصباح دون أن يشبع نوما وكان الوضع مع الأطفال صعب للغاية فأما تركهم ينامون بين موقدين وأما على النساء احتضانهم وخصوصا الرضع منهم للصباح ففي الحالة الأولى كانوا يتعرضون إلى الحروق وملابسهم كانت تتحول إلى قطع أسمال بالية أما في الحالة الثانية فكانوا يستمرون بالبكاء بردا لأن هذه النيران لم تكن قادرة على الوصول لكل أجسامهم وصدور أمهاتهم لم تكن تكفي لاحتضانهم جميعا .. ولذا غالبا ما كانت كل إمرأة تردد مع بكاءها المر جملا حزينة غير مترابطة تعبر بها عن قلقها إزاء الخطر الذي يداهم الجميع في هذه البقعة التي لا يعرها أحدا في هذه الدنيا أي اهتمام .. نم يا ولدي ها أشعلنا النيران .. وسيتدفأ جسدك بعد قليل .. كنت أود أن أموت ولا أراك ترتجف بردا .. يا ولدي الموت في قمم كارة أهون من الموت بغازات جيش صدام أو سجونه .. لو متنا هنا سنكون قريبين لقريتنا وسيكون هناك من يدفننا في مقابر أهلنا وبجوار موتانا ..أما لو متنا في مكان آخر من سيعثر على بقايانا ..؟ وسوف لن يكون لنا قبورا ..!!!
كان الأطفال يبكون أيها الناس لحد الإغماء .. فضلا عن البرد كانوا جياعا .. لم يصمد خبزهم القليل كثيرا .. تناولوا لحما لوحده .. أصابوا بالإسهال .. لا يشربون الماء إلا قليلا أو قطرات منه لأنه غير متوفر ومصادره محتلة من قبل الجحوش .. النساء ينمن قليلا وينتحبن كثيرا .. يتحملن الجوع والعطش ومعانات أطفالهن .. أينما ذهبت نحيب النساء يلاحقك .. صرخات الأطفال بردا تلاحقك .. حتى الكبار عيونهم تمتلئ دموعا .. لم يعودوا يخجلون في الإفصاح عن حزنهم بالبكاء .. فإذا كان البعض منهم يخبأ رأسه بين ذراعيه ويطلق العنان لبكاء مر ، فإن الكثير منهم بكى بصوت عالي وبمرارة شديدة .. يلعنون عالم المصالح .. ذلك العالم القاسي الذي استطاع بجدارة السكوت عن كل ما يجري في هذا الجبل .. فخمسة عشرة ألف نسمة محاصرون تطوقهم وحدات من الهمج ولا أحدا يتكلم .. خمسة عشرة ألف نسمة يتضرعون جوعا ولا أحدا يتكلم .. وقواهم تخور عطشا وبردا ومرضا ولا أحد يتكلم .. أية ضمائر تحكم الأرض ...؟ كيف تستطيع الصمود أمام كل هذا العذاب وهذه المعانات البشرية .. ؟ هل قال أحدا في كل هذا العالم كلمة واحدة عن هؤلاء الناس .. ؟ ربما كان كينشر وزير خارجية ألمانيا الغربية وحيدا حينما تحرك وجدانه ورفض هذا الظلم ، فتيمنا به استخدم أحد أنصارنا اسمه ونبه الجميع على ضرورة مناداته بأبو كينشر ظل يحب هذا الاسم لسنوات طويلة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(جه م جال وجه م شيرتى)* قريتان مسيحيتان تقعان بين منطقة نهلة وقرية كافيا وكانتا بمثابة محطات استراحة للبيشمه ركه وكان أهالي القريتان يقدمون خدمات كبيرة لهم .
(أبو خدر)* وهو غني عن التعريف كل الأنصار يعرفونه وكذلك معروف على مستوى جماهير المناطق التي كنا نعمل ضمنها وكان من الأنصار الأشداء وعلى قدر كبير من الانضباط ، ويتميز بعلاقات واسعة مع رفاقه والجماهير وكانت مواقفه ثابتة إزاء مختلف القضايا ولازال يحتفظ بالكثير من الحيوية في خوض نقاشات حامية حول مختلف المواضيع .
(أبو فؤاد )* كان مسئول محلية دهوك للحزب استشهد في 5 حزيران عام 1987 اثر قصف سرب من طائرات النظام البائد مقر قاطع به هدينان بالأسلحة الكيماوية في كه لي زيوة قرب ناحية كاني ماسى في منطقة العمادية .
(سورياز)* أبنة الشهيد ابو فؤاد ولدت في قرية آطوش وسميت تيمنا بالاسم الكوردي لنبات حمضي ينمو في جبل كارة والمناطق الباردة .

محطات من أنفال به هدينان - المحطة الثامنة


محطات من أنفال به هدينان

ناظم ختاري
(المحطة الثامنة )
أنصار يتحدثون عن العوائل وقرار الانسحاب
تقدمنا وسط هذه الأعداد الهائلة من البشر والذين ينتشرون بين صخور جبل كارة و قطوعه وأشجاره نحو موقع تواجد رفاقنا والعويل لا يتوقف وأصوات الإنفجارات و اطلاقات البنادق لا تتوقف هي الأخرى ، فأصوات الإنفجارات كانت إشارة على أن هذه القوات دمرت قرية خلفتها وراءها بمواد متفجرة وأصوات اطلاقات الأسلحة الخفيفة كانت إشارة دخول واحتلال طلائع هذه القوات لقرية جديدة وعادة ما كانت هذه الطلائع من وحدات الجحوش المرتزقة وهم يزفون بشرى جريمتهم أللأخلاقية لبقية قواتهم الزاحفة وراءهم نحو هدفهم النهائي وهو إحكام الحصار التام حول كارة وذلك بسبب معرفتهم بوجود هذا العدد الهائل من سكان هذه القرى مع البيشمه ركه والأنصار في حلقة حصارهم في هذا الجبل ، وأشارت التوقعات إلى أن عدد المحاصرين كان يزيد على ألـ ( 15) ألف إنسان اعتمادا على احتساب عدد القرى التي كان ينتمي إليها المحاصرون وعدد نفوس سكانها التقريبي وغالبية هذه القرى كانت قرى مناطق عملنا ولذلك كنا نلتقي بأعداد كبيرة من المعارف من مواطنيها بين كل دقيقة وأخرى وأثناءها يتولد عند المرء شعور غريب وهو يقف أمام هؤلاء الناس لا حول ولا قوة له ، ويردد في داخله ما ذنب هؤلاء الأبرياء وهم يتعرضون إلى كل هذه المصائب وقد تكون المصيبة الحالية أكبر كارثة في تاريخهم..؟ لم نكن نستطيع أن نفعل شيئا من أجل هؤلاء كلنا كنا نتعرض لنفس المستوى من المخاطر على الأقل في بادئ الأمر حتى وإن تغيرت المسألة بعد ذلك .
في الطريق إلى حيث رفاقنا وعوائل أنصارنا رأينا عشرات المواقف المحزنة ولكن التفكير بما سيحصل لهؤلاء الناس بشكل جماعي وهم في هذا الحصار سيطر على أي شئ آخر.. فهل يستطيع المرء أن يتخيل من أين سيحصل هؤلاء البشر على طعامهم وشرابهم وهم معلقين في قمم هذا الجبل ووديانه ..؟ هل ستستمر هذه القصة أم ستكون لها نهاية ..؟ وكم ستستمر حتى تبلغ نهايتها في ظل الجوع والبرد والخوف والأمراض ..؟ وكيف ستكون هذه النهاية وسط هذه الكم الهائل من القوات المهاجمة والمسلحة بأخطر أنواع الأسلحة ...؟ لا يمكن للمرء أن يتخيل غير نهاية محزنة ومأساوية لهذه الآلاف من البشر . فلم يكن بامكانه أن يتخيل غير ذلك وضربة مقر أنصار حزبنا في زى شين وأحداث حلبجة والضربات الكيماوية في المناطق الأخرى لازالت طرية في الأذهان وكان عدد ضحايا مدينة حلبجة لوحدها قريبا إلى عدد المحاصرين في هذا الجبل ،أي 5000آلاف شهيد و7000 آلاف جريح ..؟ فهل ستخجل السلطة لو أقدمت على مثل الجريمة مرة أخرى وقتلت هذه الآلاف المحاصرة ..؟ ومن سيردعها عن ذلك إذا أرادت ..؟ فكل المجتمع الدولي أصبح إلى جانبها وتمتنع الاعتراف بحقيقة كون النظام أستخدم هذه الأسلحة ..! ولم يكن لنا أصدقاء في هذه المحنة ، نعم إنه استخدم الأسلحة الكيماوية ..أستخدم غازات سامة لم نكن نتداول أسماءها من قبل كغاز الخردل أو السيانيد أو الماء الأصفر وما إلى ذلك ، وما بالك وإنها أصبحت تستخدم على نطاق واسع ضد سكان كوردستان كأسلحة فتاكة وأن هذه الآلاف ستموت لا محالة بواسطتها وبطريقة بشعة ...!! اعتقد أن كل واحدا منا دارت في مخيلته مثل هذه الأسئلة والكثير غيرها ونحن نلتقي الناس والمعارف وكان الحزن المرسوم على وجوههم يؤكد بشكل لا يقبل التأويل على بشاعة ما كان ينتظرهم جراء كل هذا .
وكما كنت تجد المحاصرين من سكان هذه القرى يحملون هموما لا تستطيع كل الدنيا تحملها ،هكذا وجدنا أنصارنا وعوائلنا أيضا يحملون حصتهم من هذه الهموم والحيرة في نفس الوقت بعد أن ألتقيناهم في مواقع متفرقة ضمن هذا المكان تحسبا لأي طارئ . فرغم شدة بأسهم قبل هذا الوقت كنت تجدهم في حيرة لا يحسد عليها ... أصبحت كل الطرق مغلقة بوجوهنا وها هي العوائل تعيقنا ... لا نستطيع أن نقدم لهم شيئا بعد الآن ... ولا نستطيع أن نجد حلا لهم في ظل هذا الحصار ... ونحن الآن هنا تأخر كل شئ ...علينا ان نقبل بمصيرنا المحتوم ... فلان يتحمل مسؤولية تأخير العوائل ... هذه عوائلنا سنموت من أجلها وندافع عنها من أجل خلاصهم ... نحن لو كنا لوحدنا لاستطعنا أن نجد لنا طريقا تنقذنا ... ولكن المشكلة هي مشكلة العوائل ... لماذا تأخرتم في عملية ترحيلنا....؟ كان هناك متسع من الوقت أن نصل إلى الحدود قبل نقع في هذا الفخ ولكن الرفاق أهملوا ذلك ... صحيح كان هناك الوقت الكافي لنقل العوائل إلى الجهة الثانية ولكن كان من شأن ذلك إثارة بلبلة بين الناس في المنطقة وهذا ما لم نكن نرغب به ...كان من الضروري اتخاذ الإجراءات اللازمة بصدد إبعاد العوائل إلى مناطق آمنة بسبب شراسة النظام ودمويته التي لم تفرق بين طفل ومقاتل..هكذا تكلم الجميع بين مستاء وبين من يقول أن الأحداث كانت سريعة لم تترك لنا فرصة جيدة للتفكير واتخاذ ما يلزم لتجنب مثل هذا الوضع وعموما كانت المواقف غير واضحة وأصبحنا في وضع صعب .
ولأجل التوصل إلى حقيقة الوضع ارتأيت ضرورة تدوين إجابات بعض الرفاق الأنصار عن تلك الأحداث كي تصبح الصورة أكثر وضوحا وهم يجيبون على سؤالين مترابطين في الواقع وهما – لماذا تأخر اتخاذ قرار بنقل العوائل إلى مناطق آمنة علما كان بإمكان الرفاق اتخاذه بهذا الشأن حسبما عرفت هل هذا صحيح ..؟ - ما هو تصوركم حول مجمل الوضع لماذا تأخر الانسحاب إذا كان لابد منه دون مقاومة ..؟ فكان من شأن الإسراع به تجنب كل تلك الخسائر والمصاعب ..!
أبو سربست (صبحي خضر حجو) كان حينها عضوا في اللجنة القيادية الجديدة للمحلية ، فقد خمسة من أفراد عائلته ضمن هذه الحملة فتحدث قائلا وهو يجيب على السؤالين أعلاه .
لا يمكن الإجابة على هذا السؤال بإجابة واحدة ، إذ كانت هنالك عدة أسباب ضمن تلك الظروف التي كان فيها الوضع متشابكا وضبابيا إلى حد كبير وكان مفتوحا على جميع الاحتمالات ، ولكن في كل الأحوال كانت الآفاق قاتمة والآمال تنعدم تدريجيا أمام الأنصار وأهالي المنطقة . أما الأسباب فكانت برأيّ كالتالي :
1 ـ لم يصلنا ( منطقة بهدينان ) توجيه قيادة الحزب الصادر ( حسب ما عرف فيما بعد) في شهر شباط 1988 . والذي طلب إبعاد العوائل إلى المناطق الآمنة . وإذا كان قد وصل فإننا لم نبلغ به من قبل المسئول الأول آنذاك أبو سالار ( لبيد عباوي ) ، أو من قبل قاطع بهدينان نفسه ، بدلالة إن الفوج الثالث أيضا لم يتخذ التدابير الاحتياطية لرفاقه و عوائلهم إلا قبل إحكام سيطرة الجيش والجحوش على مناطقهم بيوم أو اقل من ذلك ، ورغم أنهم كانوا قريبين جدا من الحدود ولكن بصعوبة بالغة تمكن الأنصار وعوائهم مع مجاميع من الأهالي من عبور الشارع الرئيسي بين ( مجمع باطوفا ) و(كاني ماسي )، بحيث تم حصر المئات من الأهالي في ( كلي بازي) وجرى الحديث عن حصول مجزرة لهم على يد القوات العراقية .

2 ـ تأخرت اجتماعات القيادة في منطقة خواكورك ، وانتظرنا التغييرات المرتقبة ، وتأخر وصول الرفاق ( ممثلي القاطع والأفواج ) الذين كانوا مشاركين فيها حتى نهاية تموز أو بداية آب من نفس العام . وبعد وصول ابو سالار وعقد الاجتماعات للنظر في تطبيق القرارات المتخذة ، دعي إلى اجتماع بحضور الأنصار أصحاب العوائل ودعي فيه إلى إبعاد العوائل من المقر وأطرافه إلى مناطق أخرى على الأقل بضعة كيلو مترات . ولم يقتنع في حينها أي من أصحاب العوائل بما فيهم نحن أيضا . إذ عبرّ الجميع عن قناعتهم بعدم جدوى هذا الحل ، وإذا ما حصل الهجوم فانه سيشمل المنطقة برمتها ، ولن يقتصر على المقر فحسب . ولكن سقط بيد الأنصار بسبب عدم وجود البديل الجاهز من الحلول الأخرى على المستوى الجماعي على الأقل .

3 ـ بذلنا أنا والرفيق حسين حجو كنجي ( ابو عمشة ) محاولات ومن وقت مبكر مع أبو سالار المسئول الأول للمحلية ، و اقترحنا عليه إرسال العوائل إلى سوريا عبر طريق الخط السري للحزب ( التنظيم الداخلي ) . وضغطنا عليه كثيرا ، وتعذر بان عليه أن يستشير الرفيق المعني بالطريق السري ويسأله عن مدى توفر الإمكانية لنجاح هذه العملية ، فان أجاب ذلك الرفيق بالإيجاب ستتم الموافقة وإذا كان الجواب سلبيا ، لن نستطيع الإقدام على مثل هذه "المغامرة" .
وبعد فترة وجيزة اخبرنا أبو سالار: بان جواب الرفيق المعني كان سلبيا وانه لا توجد إمكانية لمثل هكذا عمل !
وفيما بعد ، وبعد الانسحاب إلى سوريا ، سألنا ذلك الرفيق المعني والمسئول عن ذلك الخط الحزبي السري ، سألناه حول الموضوع ، وأجابنا : نعم ، سألني أبو سالار وكان جوابي له ، انه توجد إمكانية جيدة لنقل العوائل كلها في حالة موافقة الحزب !! وقد شكّل جوابه لنا صدمة كبيرة جداً !! إذ كيف يمكن لأبو سالار أن لا يكون صادقا معنا لهذه الدرجة ويخون الأمانة الحزبية ، ويخدع من منحوه الثقة الحزبية ، وكانوا معه في خنادق الموت وحموه طيلة تلك السنوات !! ، ويكون بذلك أبو سالار قد تحمل مسؤولية أخلاقية مباشرة لفقدان تلك العوائل...

4 ـ يظهر إن جميع الأحزاب وقواتها البيشمه ركه لم تضع التصور الصحيح أو التوقعات الصائبة لنوايا النظام وطبيعة عملياته القادمة ! فقد اعتمدت أسوء تلك التوقعات على إن النظام ربما سيشن هجوما اكبر من ذلك الذي كان قد شنه قبل اشهر من ذلك الوقت في (5 كانون الثاني من 1988) . حيث تم التصدي لذلك الهجوم بضعة أيام ، ونقلت العوائل أثناءها إلى مناطق خلفية أكثر أمانا ( كلي كافيا) . وبعد انسحاب القوات الحكومية عاد الأنصار و العوائل وأهالي القرى إلى أماكن سكناهم السابقة أو في القرى والأماكن البديلة في الوديان وسفوح الجبال . ولم تتوصل توقعاتنا ( جميع الأحزاب ) إلى احتمال أن يشن النظام هجوما كاسحا كالذي حدث مستخدما فيه الأسلحة الكيماوية أو الأسلحة المحرمة دولياً !! . بدلالة إن آخر لقاء بين القادة العسكريين للأحزاب المتواجدة في المنطقة من أحزاب الجبهة الكوردستانية قبل اقل من أسبوعين فقط من الهجوم ، كان قد تم فيه الاتفاق على تشكيل المفارز المشتركة وطرق وأساليب ووسائل التصدي للهجمات المحتملة والمتوقعة !.

5 ـ كما أن قيادة لجنة محلية الشيخان للحزب الديمقراطي الكوردستاني ( الحليف في الجبهة الكوردستانية ) أنذلك ، لعبت معنا لعبة .. لا نعرف ماذا نسميها ؟! ولكن في كل الأحوال كان تصرفا سلبيا وغريبا عن الروح النضالية المشتركة والعلاقات المعمدة بالدم في سوح النضال .. إذ اخفوا عنا القرار الصادر عن السيد مسعود البارزاني والقاضي بالانسحاب الشامل للبيشمه ركة والأهالي إلى مناطق آمنة خارج الحدود . وتمثلت الغرابة ، بأننا بعد أن لاحظنا في أيام 24. 25 ، و26 آب تصرفات أهالي القرى وارتباكهم ومحاولات الرحيل الجماعي ، أرسلنا وفداً بقيادة المرحوم أبو فارس ثلاث مرات في يوم واحد إلى مقرهم في ( سي ده را ) نسألهم فيها عن التطورات الجديدة وفيما إذا كانت هنالك أية أخبار استثنائية من القيادة ونذكرّهم بحال الأهالي وترحالهم ، فكانت إجاباتهم بأنهم لا يعرفون شيئا وليس هنالك من جديد ! وتكرر الأمر لليوم الثاني وكانت إجاباتهم هي نفسها !. وهم بذلك فوتوا علينا فرصة يومين ، كان بالإمكان خلالها إن نعبر النهر باتجاه الحدود الإيرانية والتركية ، بدليل إننا بعد أن رحلنا فيما بعد ، بقيت لنا مسيرة يوم واحد وكنا نعبر ذلك النهر ونصبح خارج سيطرة القوات المهاجمة . ولكننا حوصرنا ولم نستطع مواصلة المسير.
وقد كان وقع هذا التصرف على الأنصار و عوائلهم شديداً وبالغ القسوة والتأثير . وقد طرحته على شكل تأنيب قاسي على المرحوم ( علي حسن خنسي) الذي كان هو المسئول الأول في محلية الشيخان آنذاك ، عندما التقيته في دمشق بعد الأحداث بعام . وعبّر عن أسفه ولم يستطع أن يعطي تفسيراً مقبولا لذلك التصرف .

6 ـ الأمانة والموضوعية تقتضي عند رواية هذه الأحداث ، أن يكون المرء صريحا مع نفسه والآخرين ، فقد كانت لما تسمى قضية الالتزام الحزبي الصارم والالتزام بالأصول وعدم تخطي المراجع و... الخ من القواعد والتعليمات الحزبية التي تربينا عليها نحن الكوادر ولأكثر من ثلاثة عقود ، الذين كنا نعيش فصول هذه القضية المأساة ( أنا والرفاق: أبو عمشة وتوفيق وابو داؤود وآخرين ) إضافة إلى إنها كانت تشكل لنا مسألة أخلاقية وجزء من تقاليدنا الاجتماعية الشخصية ، وان كانت هذه القضية ( صدق الالتزام ) في العمل الحزبي وفي مختلف المراحل لها إيجابياتها ، ولكنها في الحالة التي نحن بصددها كانت لها نتائج سلبية كبيرة علينا وعلى عوائلنا ، ولو لم يكن التزامنا بهذه الدرجة ربما اكرر ربما كانت النتائج ستكون بشكل آخر! . فمثلاً ، كان بامكاننا تجاوز هذه العادة في تلك الظروف ونسأل الرفيق المختص بالطريق الحزبي السري إلى (سوريا ) ، إذ كنا نعرفه ونحتفظ معه بعلاقات متميزة ، وتوفرت الفرصة لذلك ، وكنا بذلك نكشف خداع ذلك المسئول ، وربما كنا نتخذ قراراً في صالح تسفير تلك العوائل .. وان ليس بالإمكان إعطاء ضمانات أكيدة حول نجاح الخطة من عدمها في تلك الظروف الصعبة. ومثال آخر.. في تلك الظروف كانت بالتأكيد تتوفر إمكانيات عديدة ومتنوعة للبعض إذا لم اقل كل هؤلاء الكوادر المذكورة آنفاً، لو استخدموها بشكل فردي لأمكنهم إنقاذ عوائلهم ! ، ولكنهم انطلاقاً من تلك الروح الحزبية والمثل والأخلاق الاجتماعية التي تربوا عليها وتشربت بها نفوسهم ، منعتهم من التفكير كل بذاته أو بعائلته فقط ، وارتضوا أن يكون مصير الجميع واحداً ، مع العلم إن كل نصير ترك له الخيار بين تسليم العائلة ولكن بعد العفو أو التصرف بغير ذلك وعلى مسؤوليته الشخصية ..

وفي كل الأحوال لابد من تبيان حقائق أخرى أيضا :
الأولى : إننا طيلة فترة الحصار أرسلنا المفارز الكثيرة في مختلف الاتجاهات من اجل الكشف عن أي طريق أو منفذ يمكن أن نسلكه للوصول للحدود الإيرانية أو التركية ولكن تلك المحاولات باءت بالفشل . إذ فقدنا اثر بعض المفارز ، وبعض أفراد مفارز أخرى فقدوا اثر بعضهم البعض بعد تعرضهم إلى كمائن القوات الحكومية واستشهد على أثرها البعض منهم .
الثانية : إننا كنا محاصرين ومعنا آلاف العوائل في ( جبل كارا ) كما أشار الأخ ناظم ختاري ، وكان الحصار محكماً وفي العديد من الأحوال كنا نغامر ونذهب إلى الينابيع وعيون المياه من اجل ملأ ما يتيسر لنا من الأواني للعوائل والأطفال بشكل خاص ، إذ كانت القوات الحكومية هي التي تسيطر على تلك الينابيع ، وكانت تلك القوات تعلم جيدا بوجود ذلك الكم الهائل من البيشمه ركة و العوائل ، ولهذا أيضا كنا نتوقع في كل لحظة أن يصار إلى شن الهجوم الكاسح علينا أو قصفنا بالمدافع والراجمات أو قصفنا بالطائرات الحربية والسمتية إذ كانت دائمة التحليق فوقنا .
الثالثة : كان الاعتقاد سائداً آنذاك وبشكل خاص بعد العفو ( 6/ ايلول ) ، بأن أقصى ما يمكن أن يتخذه النظام من إجراءات ضد العوائل التي تسلم نفسها بعد العفو ، هو انه سيعمد إلى إسكانها في مجمعات في وسط وجنوب العراق ، أو ربما في كوردستان أيضا ولكن كاحتمال ضعيف .. وهذا ما جرى فعلاً ، باستثناء عوائلنا وعوائل أخرى من قرى المنطقة ، ولكن الأغلبية الساحقة أسكنت في مجمعات قسرية في كوردستان . وفي الانتفاضة عادت كل تلك العوائل إلى المدن أولا ومن ثم قراها وأماكن سكنها السابقة بعد أعمارها طبعاً .
توفيق ( خيري درمان) الذي فقد عائلته هو الآخر والمتكونة من 6 أفراد إضافة إلى أكثر من 25 فردا من أقاربه ضمن هذه الحملة و كان حينذاك في موقع المسئول العسكري الأول ضمن التشكيلة الجديدة بعد دمج الأنصار والتنظيم المحلي وأجاب عن هذين السؤالين قائلا في الحقيقية جاء التفكير بضرورة معالجة وضع العوائل بعد هجوم السلطة على مناطقنا في 5-1-1987 على محورين الأول محور كانيكا والثاني محور سوارى وسبيندارة ، استطاعت خلالها قوات النظام عبر محور كانيكا احتلال مقراتنا وحرقها إضافة إلى حرق بعض البيوت العائدة لأفراد قوات الأنصار والبيشمه ركه في القرى التي كانوا يسكنون فيها بعد أن اضطرت هذه العوائل الانسحاب معنا في هذا الشتاء القاسي إلى منطقة كافيا حيث كان يوجد فيها مقر قاطع أربيل لأنصارنا ، علما هذه المرة لم تتعرض هذه القوات لسكان المنطقة وقراهم ، عندها شعرنا بمدى تأثير وجود العوائل في مناطق قد تصبح مناطق قتال دائمة على نشاط الأنصار فكان لابد لنا البحث عن حل بالاتفاق مع قيادة الحزب وخصوصا إنها أصبحت تتعرض إلى مخاطر جدية وأن سكان القرى التي تسكنها هذه العوائل أصبحوا يشعرون بعواقب تتهددهم في حالة استمرار بقاءها ضمن قراهم ولكننا تأخرنا في إيجاد حل والبحث بشأن ذلك ولم تطرح المسألة على قيادة الحزب بشكل مباشر إلا عند سفري إلى إيران لغرض العلاج في الشهر الرابع من عام 1988 ، حينها كلفت من قبل قيادة الفوج لمفاتحة قيادة الحزب حول هذه المسألة وضرورة إيجاد حل لها وفعلا حصل هذا اللقاء مع كل من الرفيقين أبو سعود ( عزيز محمد ) كان وقتها سكرتير اللجنة المركزية للحزب والرفيق أبو عامل كان عضوا في المكتب السياسي للحزب ومسئول المكتب العسكري المركزي لقوات أنصارنا و تبين أن الرفيقين كانا يتفهمان القضية وتركا صلاحية اتخاذ قرار بشأن العوائل على عاتقنا مع إبداء ملاحظة حول ضرورة عدم تأثير ذلك على نشاط الأنصار أصحاب العوائل .
بعد عودتي من إيران ووصولي إلى مه رانى والقول لتوفيق كان قد أتخذ قرار من قبل قيادة الحزب بشأن دمج الأنصار والتنظيم المحلي ، وتطلب ذلك وقتا ليس بقصير لتحقيق هيئات جديدة ، وفي أول اجتماع للهيئة الجديدة طرحت موقف قيادة الحزب بشأن العوائل ودفعت باتجاه اتخاذ قرار حول العوائل ولكن نتائج مناقشاتنا أوصلتنا إلى الاختلاف حول الأمر وخصوصا ما يتعلق بالأنصار أصحاب العوائل ومن يرافق العوائل فأكد بعض الرفاق العراقيل التي تعترض تنفيذ قرار ما بهذا الشأن والبعض الآخر حرص على ضرورة تنظيم تواجد هؤلاء الأنصار مع عوائلهم من خلال تنظيم أجازاتهم ، وأدى هذا الاختلاف في الرأي إلى تأجيل دراسة هذا الأمر إلى ما بعد معالجة كل ما يرتبط بعملية الدمج والانتهاء من تشكيل هيئاتنا العسكرية والحزبية ، وثم إشراك العوائل في عملية المناقشة للوصول إلى قرار ملائم . و كان هذا السبب الأول الذي حال دون معالجة وضع العوائل في وقت مبكر ، وأما السبب الثاني فله قدر كبير من الأهمية أيضا ، حيث لم نكن نحن ولا محلية الشيخان لحدك ولا قياداتنا نتوقع حجم الهجوم القادم ونوايا السلطة ، كانت تصوراتنا لا تخرج من إطار كون أي هجوم قادم لا يتعدى أهدافا محددة ولن يكون شاملا أو يكون بمقدوره إزاحة قواتنا من المنطقة بشكل نهائي مما أدى ذلك إلى إهمال اتخاذ الإجراءات اللازمة للتصدي لهذا الهجوم الشامل . وواصل الرفيق حديثه وكما تعلم كنا نتصدى للهجمات السابقة بإمكانيات كبيرة ونواصل المقاومة لأيام كثيرة كما حصل أثناء هجوم كانيكا وهكذا كان الاعتقاد السائد أن الهجوم القادم سيكون بهذا الحجم وعند ذلك لدينا من الإمكانيات لمقاومته والتصدي له من حيث السلاح وعدد المقاتلين لحزبينا علاوة على قوات المقاومة الشعبية.
ولكنه هذه المرة وردتنا معلومات من تنظيماتنا في الداخل تؤكد أن قوات النظام تنوي شن هجوم واسع على مختلف مناطق كوردستان كان هذا قبل أسبوعين من الحدث وأبلغنا قيادة القاطع بهذه المعلومات ووجه الرفاق بضرورة التحري عن المزيد من المعلومات ونوايا السلطة و قبل أسبوع واحد من الهجوم وصلتنا المزيد من المعلومات حول تحشيدات عسكرية لقوات النظام في مختلف المناطق ، وخلال هذه الفترة طلبنا من قيادة لجنة الشيخان لحدك عقد اجتماع لتدارس الأوضاع على ضوء المعلومات التي تردنا والتحشيدات العسكرية الهائلة وكنت من بين الذين حضروا الاجتماع من جانبنا والسيد على خنسي من جانب حدك وتداولنا الأمر كثيرا وأكد الرفاق في حدك على استعدادهم للمقاومة وأشاروا إلى إمكانية ذلك ووجود أسلحة جيدة وأعداد كبيرة من المقاتلين والبيشمه ركه والمقاومة الشعبية واستشهدوا بمقاومة قواتنا في خواكورك والتي استمرت لما يقارب الشهرين من المعارك الضارية ، وقالوا على الأقل نستطيع مقاومة العدو لشهر واحد وهكذا جرى الاتفاق في هذا الاجتماع على المسائل التالية .
- تشكيل مفرزة مشتركة وإرسالها إلى قرى المنطقة وذلك لحث الناس على المقاومة وجمع المزيد من المعلومات والتصدي للحرب النفسية للعدو التي بدأ يشنها عملاءه بشكل نشط جدا في المنطقة وهي كانت تثير الهلع في صفوف الجماهير.
- أن تكون هنالك اتصالات مستمرة بين الطرفين للمزيد من التنسيق حول المستجدات في الوضع العسكري .
- الاستعداد للمقاومة وإعداد القوات و تهيأة مستلزماتها .
وبعد عودتنا إلى المقر اجتمعت اللجنة القيادية الجديدة لدراسة الوضع من كل الجوانب والقرارات التي توصلنا إليها في لجنة جك .واتخذنا الإجراءات التالية - أعددنا الأنصار للمشاركة في المفرزة المشتركة - واتخذنا قرارا بشأن معالجة الأسلحة والمؤن الزائدة عن الحاجة وإخفاءها للضرورة - ودرسنا وضع العوائل ، فطرح السؤال التالي بشأنهم . هل يتم اتخاذ قرار تتوجه العوائل بموجبه إلى المناطق الحدودية ..؟ علما كان الوضع لازال هادئا في مناطقنا على الأقل مع تأكيدنا على ضرورة إنقاذ العوائل توقفنا عند نقطتين أثارهما أبو سالار ( المسئول الأول للجنة ) ، 1- كيف سيكون موقف الجماهير لو انسحبت عوائلنا نحو الحدود.. ألا يثير ذلك الكثير من القلق لديها ويحدث بلبلة بين صفوفها وخصوصا أن الناس تعتمد كثيرا على مواقفنا ..؟؟ 2- من يرافق العوائل في انسحابهم وخصوصا أن الغالبية من أصحابها من الأنصار الذين يجري الاعتماد عليهم في مثل هذه الحالات الحرجة بحكم معرفتهم الجيدة بطبيعة المنطقة..؟ .
فإذا كانت هنالك إمكانية معالجة النقطة الثانية من خلال الاستعاضة بالأنصار كبار السن والغير فاعلين منهم لمرافقة العوائل فإننا لم نجد مخرجا نبرر به موقفنا أمام الجماهير، في حالة الانسحاب في ظل هذه الظروف. ولهذا جرى اتخاذ قرار بضرورة التريث وما ستؤول إليه الأحداث.
وفي الواقع كانت هنالك ضرورة لدراسة قضيتين أساسيتين ترتبطان بمسألة العوائل ووضعنا بشكل عام .
المسألة الأولى – كانت رؤيتنا في الاجتماع المنعقد بيننا وبين رفاق حدك وفي اجتماعاتنا الأخرى قاصرة وكانت مقارنة مناطقنا بمنطقة خواكورك مقارنة غير موفقة أوقعتنا في ورطة حقيقية للأسباب التالية 1- كانت هذه المناطق أي خواكورك تقع مباشرة على الحدود مع إيران ، وهذا جعل من الصعوبة بمكان على قوات النظام تطويقها ومحاصرتها وكذلك كان يسهل على قواتنا الدخول إلى الأراضي الإيرانية متى ما شعروا بعدم القدرة على مواصلة القتال 2- لم تكن قوات الأنصار والبيشمه ركه هناك في خواكورك مقيدة بوجود عوائل لمقاتليها ، وهذا ما وفر لها حرية الحركة والخفة اللازمة وسهولة مناورة العدو 3- والجانب الأكثر أهمية هنا هو مشاركة القيادات في العمليات الحربية المباشرة من خلال التصدي للهجمات وهذا ما أدى إلى تعزيز معنويات المقاتلين وقدرتهم على مقاومة العدو مثل هذه الفترة الطويلة والتي قاربت الشهرين.
المسألة الثانية - أرى كان لزاما علينا كقيادة محلية نينوى وقيادات الأنصار الأخرى وعلى أعلى المستويات أن نلجأ لاتخاذ قرار بشأن العوائل وخصوصا بعد ورود المعلومات الدقيقة من منظماتنا حول استعدادات العدو وتحشيداته العسكرية لشن هجوم واسع على مختلف مناطق كوردستان يهدف من وراءه تصفية الوجود المسلح هناك بعد أن تستطيع إزاحة سكان الريف من قراهم . ففي الواقع إن المعلومات التي كانت تصلنا كانت تفصيلية وتؤكد على حجم قوات النظام وتحشدا ته في كل منطقة ونواياه الحقيقية وهذا كان يعني أن النظام كان جادا وعبر كل إمكانياته من أجل تحقيق أهدافه المرسومة . وإلى جانب هذا كان من الضروري أن نأخذ وجودنا في العمق بنظر الاعتبار فكانت إمكانية تطويق ومحاصرة مناطقنا ممكنة بعكس خواكورك بحكم كونها مقطوعة ووجود مناطق واسعة ومدن عديدة تفصل بيننا وبين الحدود مع تركيا تسيطر عليها قوات النظام العسكرية وتديرها مؤسساته الحكومية وكانت تتوفر فيها شبكة من الطرق والمواصلات تساهم إلى حد كبير على تسهيل حركة العدو بينما قواتنا كانت دائما معرضة للوقوع في الحصار .
وهذا ما استغلته قوات النظام في الوقت الذي كان ذلك غائبا عن بالنا ولهذا فإنها بادرت منذ البداية على تشديد حصارها لمناطقنا عبر السيطرة على المنافذ الحدودية وثم التوجه لتضيق الحصار على مقراتنا والقرى القريبة منها ، وهكذا بدا عملاء النظام بحربهم النفسية من خلال إشاعة معلومات كان الهدف منها انهيار معنويات الجماهير و إحباط أية محاولة للمقاومة إلى جانب قوات الأنصار والبيشمه ركه ودفعها للاستسلام .
وفي الحقيقة أدى هذا النشاط من قبل عملاء النظام إلى خلق حالة من الرعب بين جماهير المنطقة ودفع قسم منها إلى ترك قراها متوجهة نحو الحدود وهي الوحيدة التي تخلصت من كماشة العدو ، واثر هذا وصلتنا أخبارا بواسطة مفرزتنا عن بدء نزوح الجماهير وترك قراهم ، فأرسلنا وفدا إلى سى ده را للاستفسار عن الموقف وهم أكدوا بدورهم على إنهم سيقومون بإرسال مفرزة للانضمام إلى رفاقنا بغية إشاعة الهدوء بين الناس ، ولكنه سرعان ما تواردت أنباء وإخبار مخيفة عن حجم القوات المتقدمة ونواياها ما أدى إلى عدم السيطرة على الوضع وبدأت الجماهير بالنزوح الجماعي واشتدت وتيرته في 23- 8- 1988 ولذا عادت مفرزتنا إلى المقر ، وعندها فقط بدأنا بشكل جدي الاستعداد للرحيل وكان ذلك متأخرا ، فأعطيت الأوامر إلى العوائل للتوجه إلى الحدود التركية عبر آشه وا فورا ولكنهم عادوا في صبيحة اليوم التالي دون أن يستطيعوا العبور بسبب الأعداد الكبيرة من القوات الموجودة على هذا المنفذ . ولم يبقى أمامنا إلا التوجه إلى كافيا وهناك وجدنا هذا المنفذ هو الآخر محتلا من قبل قوات النظام .
كفاح ( ماجد جمعة كنجي ) غيبت عائلته ضمن هذه الحملة أيضا وكانت ضمنها والدته وجدته وثلاثة من إخوته إضافة إلى عائلة عمه حسين حجي كنجي المتكونة من تسعة أشخاص . إذ قال في الحقيقة هناك عدة أسباب أدت إلى هذا التأخر والذي ساهم بدوره في فقدان هذه العوائل ضمن هذه الحملة .
1- خطأ تقديرات الحزب الشيوعي العراقي بشأن الحرب العراقية – الإيرانية التي شارفت على نهايتها دون أن يعمل على اتخاذ الإجراءات الضرورية بصدد مستقبل الحركة الأنصارية وما يرتبط بها وخصوصا العوائل التي أهملت معالجة وجودها وبقاءها ضمن مناطق تعرضت لاحقا بسهولة إلى مخاطر ثمنها كان حياة أفراد هذه العوائل . هناك من يقول أن الشيوعيين يشمون رائحة الخطر من بعيد أو يتوقعون حدوثه قبل سنوات عديدة من وقوعه ، وفي الواقع هذا لم ينطبق على قيادات الأنصار ولا على قيادة الحزب ، فلم تكن هناك قراءة مسبقة لتطورات الأحداث على مستوى العمليات العسكرية بين العراق وإيران حيث أن الانسحابات الإيرانية المتوالية من منطقة الفاو والقاطع الشمالي والوسط خلال فترة قصيرة والتي بدت وكأنها انتصارات عراقية والحقيقية كان ذلك دليلا على أن الحكومة الإيرانية ستقبل بوقف إطلاق النار بعد العودة إلى الحدود الدولية وبالتالي إنهاء الحرب ولو جرت متابعة هذه المجريات بشكل جدي لأستطاع الحزب التوصل إلى استنتاجات أفضل وبالتالي اتخاذ الإجراءات اللازمة بشأن مجمل ما سيواجه الحزب ارتباطا بهذه التطورات العسكرية في جبهات القتال ، ومن خلال هذه المسألة كان يمكن توقع نهاية هذه الحرب وبالتالي التوقع أيضا بأن النظام سيلجأ لتنفيذ مخططاته في كوردستان والاستفراد بالحركة المسلحة فيها وجماهيرها ، في الوقت الذي بدا وكأن وقف الحرب في 8-8- 1988 كان مفاجئة بالنسبة إلى الحزب ، ومن المعروف إن المفاجآت في السياسة والميدان العسكري لها عواقب وخيمة على الأرض .
2- وعلى صعيد آخر وقريبا من الأحداث تم تشكيل هيئات قيادية جديدة للأنصار بعد دمج الجانب التنظيمي والعسكري ، كانت نتيجتها قيادات ضعيفة غير مؤهلة لقيادة العمل ضمن هذه الظروف المعقدة فعلى مستوى مناطقنا جرى تكليف أبو سالار بقيادة العمل في الجانبين في الوقت الذي كان يفتقر فيه إلى أية خبرة عسكرية بخلاف شخصيات أخرى لها تاريخ عسكري مشرف مثل المرحوم توما توماس .
3- بعد إيقاف الحرب مباشرة طالب العديد من الأنصار أصحاب العوائل إبعاد عوائلهم إلى مناطق آمنة على الحدود ولكنه لم تتم الاستجابة لهذا الطلب وهذا ما أدى إلى سهولة وقوع العوائل في الحصار أثناء تقدم القوات العسكرية للنظام على مناطقنا ضمن حملة الأنفال هذه ، وبالتالي الاضطرار لتسليم أنفسهم أثناء العفو.
4- فقدان حركة الأنصار لحيويتها ونشاطها كونها تخوض حرب بارتيزانية بعد أن تحولت إلى بناء مقرات كبيرة والتقوقع فيها وممارسة معارك جبهوية وتجميع العوائل حول هذه المقرات دون النظر إلى ضرورة إبعادها إلى المناطق الحدودية لإنقاذها من أية مخاطر تتهددهم.
يتبع

محطات من أنفال به هدينان - المحطة السابعة


محطات من أنفال به هدينان
ناظم ختاري
(المحطة السابعة)
ها نحن نلتقي مرة أخرى بأهالي قرى منطقة عملنا بعد أيام ثقيلة أهلكتنا كثيرا من غير أن نقاتل .. وكيف نقاتل ومن حولنا جيش عرمرم ومدجج بأسلحة غير تقليدية تقتل الإنسان لمجرد الاستنشاق العادي إنها تهب مع الريح ،إنها رياح صفراء عاتية ، إنها غازات سامة ، إنها الخردل والسيانيد...؟!
جيش لم يبارح المعركة مع إيران إلا منذ أيام قليلة . لازالت رائحة البارود تلف حوله وتفوح منه بقوة وتهيجه لمواصلة المزيد من القتل في كوردسان ولكن هذه المرة قتل كل شئ وبهمجية لم يسبق لها مثيل .. كيف نقاتل والقرار هو الانسحاب ..؟ وبالنسبة لنا كان هذا القرار في الواقع مفاجأة غير محسوبة لأنه لم يكن قرارنا نحن بالرغم من إنه كان ضروريا لتفويت الفرصة على هذه القوات المتقدمة وإنما فرض علينا وأصبح أمرا واقعا بسبب بدء النزوح الجماعي لسكان المنطقة والتي أصبحت على حين غرة خالية تماما من غير أن ندري . وهنا لابد من التـأكيد أن مفاجأة القرار كانت تكمن في وقت اتخاذه والذي جاء متأخرا وقتما أحكمت قوات النظام سيطرتها على أغلبية المنافذ الحدودية ووقتما كانت هناك توجيهات تدعو إلى المقاومة.. ودون أن تكون هناك دراسة للإمكانيات القادمة أو استعدادات معينة حول تغيير وجهة العمل البارتيزاني أو الانسحاب المؤقت مثلا وضرورة معالجة وضع العوائل بشكل يحافظ على حياتها ويساهم في تحرير أعداد ا من الأنصار أصحاب العوائل لمواصلة الكفاح ، أو نقل القضية إلى الخارج لكسب دعم دولي .. وغيرها من الإجراءات التي كان من شأنها أن تساهم في التخفيف من وطأة هذه الحملة العنيفة وخسائرها . فكانت حربنا قد أصبحت حرب مواجهة خرجت من نطاق كونها حرب بارتيزانية حيث كانت تشارك أعداد كبيرة من القوات في معارك جبهوية كانت تستمر لعدة أيام وعلى أراضي واسعة عندما كانت القوات العسكرية للنظام منشغلة في الحرب مع إيران و تحولت إلى حرب شبه شعبية شاركت فيها الجماهير عبر تشكيلات المقاومة الشعبية ، ولكنها كانت تنقصها المزيد من المستلزمات وقبل كل شئ عدم التوصل إلى حقيقة نوايا السلطة بعد أن تتوقف الحرب ، ولذلك لم يجر إتخاذ أي إجراء ضد هذه النوايا .
التقينا الناس وهم في حالة شديدة من الانكسار أمرهم شبيه بأمر جيش مهزوم من المعركة وهو يتقهقر أمام اندفاع عدو شرس باغتهم وفاجأهم بعديده وعدته ولكنه يفضل الموت على الاستسلام ، التقينا هم بعد أن كانوا يعتقدون بأنهم سيصلون بسهولة إلى الحدود التركية وبذلك يتخلصون من قبضة عساكر النظام و إجراءات أجهزته القمعية ولكن شاء القدر أن يرغم هذا العدد الكبير والبقاء معلقين في قمم كارة لكي تكون شاهدا على معانات إنسانية قل مثيلها . فلم يكن هناك ما هو طبيعي في هذه البقعة من كارة الذي قاوم المعتدين في أحلك الظروف . شعرنا إنه (كارة) يستعد هذه المرة لمعركة أخرى تختلف عن المعارك السابقة والتقليدية لا خيار فيها للمقاتلين غير خيار هذه القوات المتقدمة وهو الإجهاز على التواجد البشري في ريف كوردستان .
فمنذ ليلة أمس أصبحت هذه آلاف تتدفق من كل مكان وواد باتجاهه يتسلقون قممه الشاهقة ليخوضوا معركتهم مع الجوع والعطش والبرد وهم في حصار يفرضه ذلك الجيش متربصا لهم بالقتل كيماويا حينما يأتمر بأمر أحد قادتهم . كنت تجد في سيانى وهي منفذ صعودنا باتجاه القمة كل شئ يدمى له القلب ، امرأة لها من الأطفال عدد لا أتذكره كانت تصيح فيهم باكية لللحاق بها نحو قمة الجبل الذي لم يبلغوه قبلا غير بضعة خطوات صعودا عندما كانوا يلعبون في طرف قريتهم ما قبل زمن القصف والقتل بالكيماوي وقبل أن يسمعوا باسم سيد هذه الأسلحة القاتل المتوحش علي كيماوي ، امرأة أخرى تركت التنور مشتعلا دون أن تستطيع صنع رغيف واحد يساعدها وعائلتها على مقاومة الجوع القادم ، شيخ ينادي (فه رمانه ..هاوار.. فه رمانه )* ( داي وه له د هافيت) * ولم يكن يعني هذا الشيخ إلا الحقيقة بعينها عندما تركت امرأة أخرى مولود ها في (كه لي كافيا ) وهو في ساعاته الأولى . من يحكم هذا العالم يا ترى .. ولماذا لا يتحرك ضميره ويرفض هذا الظلم ..؟ تمتم أحد الأنصار بذلك وهو يراقب المشاهد بهدوء ويغسل جورا به بعد ليلة متعبة من السير بماء يتدفق من نبع صافي يقع في أعلى كه لى سياني وينحدر نزولا يلف القرية إلى نصفها ثم يتجه نحو باب الوادي حيث بساتين القرية التي تسقى منه لتشكل مصدر معيشة سكان القرية الأساس .. صاح رفيقنا المسئول العسكري استعدوا أيها الرفاق للصعود دون تأخير ، حملنا معنا ذلك العجين الذي تركته امرأة من هذه القرية وسرنا في الإتجاه الذي يسير فيه بقية الناس كان صعودا حادا يثقل من تعبنا كثيرا ولكن المشاهد المأساوية والكثيرة حولنا حالت دون نشعر إلا بها ، صرنا نساعد الأطفال على الصعود و نحملهم على ظهورنا المحملة بالعتاد والسلاح الشخصيان وكمية من الأغذية وما إلى ذلك ، كانت هذه المرأة والدة عدد من الأطفال تحمل فوق ظهرها ثقلا يعيقها من الحركة وكانت أبنتها ذات السنوات الستة تحمل شقيقها الرضيع على ظهرها و خلفها أطفال آخرون و بقية أخواتها وإخوانها كلهم كانوا بعمر الورود وكان مشهدهم يثير الكثير من الألم وخصوصا عندما كانت تلك الطفلة الصغيرة بين كل عدة خطوات تتدحرج نحو الأسفل مع ذلك الرضيع مما اضطررت رغم كل مإ كنت أحمله أن أحمل الرضيع على ظهري أيضا وعندما بلغت القمة جلست على طرف من الطريق منتظرا وصول والدة الطفل وجدت شابا يحمل الكثير من القلق يبحث هنا وهناك وينتظر قوافل الناس الصاعدة إلى قمة الجبل ولما وقعت عيناه علينا أنا والطفل أقترب وتفحص الطفل فسرعان ما قال أن هذا الطفل لي وأنا أبحث عنه فقلت له أن بقية عائلته ستصل بعد قليل .
بعد خطوات من وصولنا إلى القمة التقينا بالعديد من المعارف من أهالي هذه القرى وكان أولهم محمد رشيد سواري وهو أحد أقرباء رفيقنا أبو فيلمير سألته عن رفاقنا فأشار إلى مكان تواجدهم ، ومن هنا كنت تجد تدفق الناس إلى هذا المكان على شكل مجموعات متعددة تظهر من كل اتجاه متجمعة في هذا المكان الذي يمكنه أن يستوعب الكثير من البشر مع كل همومهم . مجموعة هنا وصلت للتو سرعان ما التصق اجساد أفرادها بالأرض بسبب التعب والإرهاق الشديدين والخوف وأخرى تغرق في نوم عميق وثالثة تحاول أن ترتب مكانا لها وقطيع غنم يسرح بين هذه المجاميع لا يعرف أحدا لمن يعود ، ولا أحدا يأبه بعائديته له وما أكثر هذه القطعان التي تحولت لحساب رؤساء ومستشاري الأفواج الخفيفة عندما تركها أهلها في مراعيها ضمن قراهم .. وهكذا كان العشرات من المحاصرين يسألون عن آباءهم وأمهاتهم وأطفالهم وأقرباءهم وأهالي قراهم الذين تاهوا بعضهم بعضا ، صرخات الأطفال ترتفع خوفا فإنهم لم يدركوا تماما ما الذي يجري وما تخبئه لهم الأيام القادمة وهم في يومهم الأول ويحصلون على الخبز بطريقة مقننة فكيف ستكون الأيام التالية ، بكاء النساء يتصاعد وهن يشعرن قبل غيرهن بحجم كارثة كل واحدة منهن حتى وإن لم تكن تفكر بأنها نفسها ستكون الضحية مثلها مثل الرجل المسلح والمقاوم . لا فرق في هذه المعركة الغير متكافئة بين رجل تحدى الجيوش ببندقيته البرنو وخلف صخرة في أحد جبال كوردستان وبين امرأة لم تخلف بعد مقاتلا من وطن هذه الجبال أو فتاة تتأمل الاقتران بمقاتل أو طفل لم يحارب أو لم يتعلم الحرب بعد أو شيخ عجزته كهولته عن الحرب والمقاومة ... مناداة الرجال لمفقود يهم تعلو وتملأ الوديان القريبة من هذه المنطقة حقا إنه( فه رمان ) لا يعرف أحدا كم من الدماء ستكون ثمنا لهذه الجريمة الوحشية .
كان هؤلاء الناس في المعارك السابقة أقوياء يشاركون بشجاعة في التصدي لغالبية هجمات قوات الجيش العراقي والمرتزقة ، بل يشاركون في توجيه ضربات موجعة لمواقع هذه القوات وكان التصدي المشترك للكثير من هذه الهجمات يتحول بالنسبة إلى الشبيبة الريفية إلى مناسبات لإظهار قدراتهم القتالية وفرص جيدة لتوثيق العلاقة بين أطراف عشائرية متنافرة وإزالة أسبابها ولكن اليوم ليست بيدهم حيلة.. فالعوائل تعيقهم والأسلحة الكيماوية تتهددهم . وأسباب تواجدهم هنا في هذا الحصار تستعصي على الفهم للكثير منهم ربما كان كل فرد منهم يفضل الموت بعد قتال في أطراف قريته أو أن يجري اقتياده من قبل هذه القوات المتقدمة من أطراف قريته بعد أن يستسلم لها عندما تنتهي كل وسائل المقاومة ولا يهم كيف سيكون مصيرهم فقدرهم كان دائما أن يدفعوا الضريبة جراء رفض ظلم الحكومات الشوفينية حتى ولو كانت هذه الضريبة حياتهم ، إذ كانوا مستعدين لها كما فعل الآخرون من قبلهم وضمن هذه الحملة نفسها التي بلغت ضحاياها البشرية وفق الوثائق الرسمية 182 ألف كوردي و4500 قرية مع كل ثرواتها الطبيعية والحيوانية .
وعندما تجد الإصرار لدى الناس حتى في حالات ضعفهم الشديدة والاستعداد للتضحية.. نعم الاستعداد للموت وهم يدركون تماما أن عدوهم لا يأبه بضعفهم فيحسبون أن قدرهم هو هكذا وأن هذا الضعف ليس إلا استعدادا للموت من اجل قضيتهم وليس استسلاما أو تسليم راية.. فهنا يطرح السؤال نفسه لماذا تم زجهم في هكذا موقف ضعيف وهذا الشكل من التضحية أو الموت ..؟ ألم تكن مقاومة هذه القوات المتقدمة في أول قرية تقع على طريق تقدمها خيارا أفضل من أن يدفن هذا العدد المذكور أعلاه في الرمال وفي مقابر جماعية انتشرت في كل مكان من العراق بعد أن واجهوا المزيد من إهانة كرامتهم الإنسانية ..؟!! ولحد الآن لم يتم العثور على مقابر الآلاف منهم ولا يستطيع ذويهم زيارة مقابرهم ووضع أكليل ورد عليها في المناسبات .. أم كان لابد من بروفة ثمنها هذا العدد من الضحايا لنقل القضية إلى الساحة الدولية بعد أن استنفذت كل الوسائل الأخرى من أجل تحقيق ذلك ..!! وكان للسياسة حساباتها الخاصة ...!!!! ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- (فه رمانه ..هاوار.. فه رمانه )* جملة كوردية تعني " إنها الإبادة.. النجدة.. إنها الإبادة"
- ( داي وه له د هافيت) * جملة كوردية تعني " الأم تتخلى عن ولدها "

محطات من أنفال به هدينان - المحطة السادسة


محطات من أنفال به هدينان

ناظم ختاري
(المحطة السادسة )
في عصر يوم 25-8- 1988 وقبل أن يحل الظلام تهيأت مجموعتنا مرة أخرى وشدت الرحال للخوض في رحلة مجهولة ووسط مخاطر مجهولة أيضا وكنا في الواقع نتوقع أن تكون هذه المخاطر كبيرة ومتأكدين من إنها جدية ولكننا لم نكن نعرف عنها شيئا سوى أن أعدادا كبيرة من قوات النظام أصبحت تحاصرنا وهي مدججة بأسلحة كيماوية لا يمكن للمقاتلين مقاومتها مهما كانت عزيمتهم ومهما كان اندفاعهم وإخلاصهم لقضيتهم . فالمرء عندما يحمل السلاح بدافع من الضمير والقناعة ودفاعا عن قضية حق يؤمن بها إيمانا مطلقا يمكنه أن يحقق مآثر و بطولات في أشرس المعارك مع العدو ، ولكنه قد لا يستطيع تحقيق ذلك عندما يستخدم عدوه أسلحة كالأسلحة الكيماوية والتي أستخدمها نظام صدام حسين في العديد من المعارك مع قوات الأنصار والبيشمه ركه وضد الشعب الكوردي في مناطق عديدة من كوردستان . ورغم ان مناضلي الحرية من الأنصار والبيشمه ركه و قوات المقاومة الشعبية كانوا يدركون أن مقاومة مثل هذه الأسلحة مستحيلة فإنهم امتنعوا عن الاستسلام لها وكانوا يشعرون أنهم بحاجة إلى أسلوب آخر من النضال للتصدي لهذه الهمجية وفي الواقع أصبح واضحا أن هذه المهمة لا يمكن لها أن تتحقق دون أن تنتقل قضية الشعب العراقي بشكل عام والشعب الكوردي بشكل خاص و بجهودهم وعلى أكتافهم وبدمائهم وتضحياتهم وتضحيات الجماهير الكوردستانية إلى العالم الخارجي لكي تجد لنضالهما العادل سندا ودعما دوليان يساهم في ذلك كل المجتمع الدولي و القوى المحبة للسلام والإنسانية والحريصين على العراق وأصدقاء شعبه كوردا وعربا. ولكن يبدو أن المجتمع الدولي هذا كان ظالما لم يتحرك ساكنا وصادقا إزاء قضيتنا ولم يتألم أو يؤنبه ضميره عندما كان يراقب معاناتنا وفجائعنا إلا عندما تعرضت مصالحه إلى التهديد والخطر.
نعم كان من الحكمة أن يتم الإعداد لهذا الأمر عبر دراسة علمية ووضع خطط عملية للبحث عن مساندة دولية لهذه القضية العادلة التي كانت تفتقر إليها وخوض نضال لا هوادة فيه من أجل فضح نهج النظام الدكتاتوري وطبيعته العدوانية لغرض فرض عزلة دولية عليه ، لأنه أصبح واضحا إن إمكانية إسقاط هذا النظام غير متوفرة لدى المعارضة العراقية لأسباب 1- آلته العسكرية الهائلة بما في ذلك الأسلحة الكيماوية ألتي أصبح يستخدمها دون أي رادع في شتى المعارك في كوردستان بل ضد السكان الأبرياء في ريفها وقصباتها وأكبر دليل على ذلك مدينة حلبجة الشهيد والعديد من المناطق الأخرى التي جاء ذكرها في محطات سابقة . 2- الدعم الدولي الذي كان يحصل عليه وبشكل خاص الدعم العربي فرغم استخدامه الأسلحة المحرمة دوليا فإن أية إدانة دولية لم تصدر بحقه لكي تردعه عن ارتكاب جرائم أخرى ، بل كان يحصل على المزيد من أسلحة القتل الجماعي من دول ذات شأن وتأثير دوليان ... وإلى جانب هذا كان من الضروري عدم الإفراط بقوات الأنصار والبيشمه ركه وإبقاءها على الأرض كقوة فاعلة لمواصلة دكها مواقع السلطة حينما تتوفر الفرص لذلك وإيجاد أشكال أخرى لحربها تتلائم وحجم الآلة العسكرية للنظام وإمكانياته الهائلة في الجوانب المختلفة بعد تفويت الفرصة عليه في هذه الحملة الشرسة (حملة الأنفال ).
تحركنا وكما قلت عصرا آخذين بنظر الاعتبار ضرورة اختيار طريق لا تجبرنا المرور بداخل (سى ده را) بل المرور بجوارها وكان ذلك إجباريا ولم يكن بالإمكان تحقيق ذلك دون أن نسير في وديان غير مطروقة سابقا ومجهولة بالنسبة لنا ولكن كونها مناطق قريبة من المقر كنا نعرف كيف نخرج منها وهكذا واصلنا المسير إلى أن أشرفنا على (سى ده را) بعد أن حل الظلام ومن الجهة التي كنا نرغب أن نصلها أي من جهة ( كاني بوتكى )* التي تقع بين سى ده را وقمة الجبل المشرفة على به رى كارة وبالذات على قرية بهى . كان علينا أن نكون حذرين جدا ونحن نسير في سفح الجبل الذي يشرف على المقر لأنه بدأ وكأنه مليء بالقوات المتقدمة بسبب الأصوات التي كانت تصل إلى أسماعنا ولكن دون أن نستطيع تمييزها علاوة على النيران المنتشرة في أماكن عديدة من المقر وكنا نخشى كثيرا ما تصدره حوافر البغل الذي كان معنا من أصوات وهو يحمل عنا الكثير من ما لا نستطيع حمله وخصوصا أن المسافة بيننا وبين المقر لم تكن بعيدة كان يمكن أن ينكشف أمرنا بسهولة لو اصطدمت حوافر البغل أو قدم أي واحد منا بحجارة صغيرة وتدحرجت إلى الأسفل . فبحبس الأنفاس وبذل جهد كبير مع البغل أصبح مقر (سى ده را) خلفنا محاولين وعلى عجل الوصول إلى الطريق المطروقة والمعروفة بالنسبة إلينا .
تنفسنا الصعداء وسرعان ما أصبح كل شئ يسير بشكل طبيعي ونحن نواصل السير بأتجاه (زوم)* (سه فرا)* الخربة وهناك توقفنا قليلا للراحة وثم واصلنا المسير وبعد فترة قصيرة من تقدمنا لم تستغرق أكثر من 15 دقيقة سمعنا أصواتا تتقدم نحونا فأخذنا استعداداتنا تحسبا لأي طارئ ولكن سرعان ما تبين أن القادمين نحونا هم من المدنيين ومن أهالي قرية (كانيا باسكا ) المذكورة ضمن المحطات السابقة عدة مرات وكان يتقدمهم الشاب هاشم وهو أبن مام نجمان الذي يسكن القرية مع أخويه مام اوصمان وميرزا ، كنت على علاقة طيبة بعائلة هاشم التي استمرت إلى أيام دهوك بعد الانتفاضة ، تحدث هاشم لنا كيف أنه مع بقية عائلته وضمن أعداد كبيرة من الناس وصلوا إلى وادي قرية كافيا التي كان يسكنها أبناء عشيرة الزيبار وتراجعوا بعد ذلك عندما وصلت أخبارا تشير إلى أن الطريق الوحيدة المتبقية أمام هذه الأعداد الكبيرة سيطرت عليها قوات الجيش في قرية كافيا وتحدث عن معارك طاحنة خاضها بيشمه ركه قاطع أربيل للحزب الشيوعي قبل هذا الوقت على معبر روي شين أنقذوا خلالها أعداد كبيرة من العوائل وكبدوا العدو خسائر فادحة.
كان قلق هاشم كبيرا وهو الرجل الوحيد من بين أفراد عائلته يقود عددا من النساء وسط وضع صعب لم يفهمه وهو يريد العودة باتجاه قريته على أمل أن يلتقي هناك مع بقية أفراد عائلته وعوائل أعمامه ، ولكننا أوضحنا له خطورة الموقف وأن (سى ده را ) أصبحت الآن محتلة من قبل قوات الحكومة .
عرفنا منه أن هذه الأعداد الكبيرة من البشر أصبحت تتراجع بينها مفارز عديدة من قوات الحزب الديمقراطي الكوردستاني وقوات محلية نينوى لحزبنا الشيوعي العراقي وعوائل أنصارنا وذلك نحو جبل كارة للاحتماء به لأن القوات المتقدمة للعدو أصبحت تحاصر هذا الجبل بشكل تام وهذا ما كنا نلاحظه أولاحظناه بأم أعيينا على الأقل على مستوى جهة (سوارة توكه) عن طريق (سوارى وسبيندارى) وجهة أتروش وثم باكرمان ودينارته وها أن أهالي القرى الذين يعدون بالآلاف وقواتنا تتراجع أمام تقدم قوات النظام وإغلاقها لكل المنافذ من جهة بارزان وديرالوك وأخيرا كافيا وعرفنا كيف أن عوائل أنصارنا لم تستطع العبور عبر منفذ آشه وا بالقرب من سرسنك.
أصبحت الإطلاقات التنويرية تنطلق من كل جهة وصوب وأصوات الإنفجارات لا تتوقف ونحن لازلنا نسير على الطريق المؤدية إلى كه لي كافيا عبر قريتي (ئه ركنى وسيانى )* ونحسب في أي نقطة سنلتقي بجموع الناس وقواتنا . إلى أن وصلنا إلى (سيانى ) فجرا حين بدأت مجاميع المتراجعين تظهر لنا وهي تتوجه صعودا نحو كارة وبدأت قوات النظام المرابطة على قمم جبل في الجهة المقابلة واضحة لنا بالعين المجردة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- ( كاني بوتكى )*عين ماء تقع في منطقة عالية من جبل كارة من جهة سى ده را أي بينها وبين قرية بهى وفي ما يشبه على شكل حوض مقوس وعلى جانب منه في الجهة الجنوبية وكانت المياه التي تتدفق منها لا تزيد عن ما تدفعها أية حنفية منزلية ولكنها كانت مياه عذبة تتميز بشدة بردوتها ، في الصيف كان الرعاة يقضون عدة شهور عليها مع قطعانهم وخلال فترة الحصار أصبحت هذه العين المصدر الوحيد ترتوي منها هذه الآلاف من البشر المحاصرين .
- (زوم)* مراعي صيفية في الجبال يتوفر مستلزمات تربية الماشية . يذهب إليها الرعاة مع قسم من عوائلهم ، ولذا تجد لكل منطقة مراعيها الخاصة .
- (سه فرا)* كانت في السابق قرية وتحولت فيما بعد إلى أحدى هذه المراعي ومن ثم سكنتها بعض عوائل البيشمه ركه التابعة للحزب الديمقراطي الكوردستاني .
- (ئه ركنى وسيانى )*قريتان تقعان في نهايات كارة من جهة الجنوب الشرقي التي ترتبط بمنطقة الزيبار وتعتبر من المناطق الجميلة جدا وتسكنها عوائل زيبارية .