الأربعاء، 7 مايو 2008

محطات من أنفال به هدينان - المحطة السادسة


محطات من أنفال به هدينان

ناظم ختاري
(المحطة السادسة )
في عصر يوم 25-8- 1988 وقبل أن يحل الظلام تهيأت مجموعتنا مرة أخرى وشدت الرحال للخوض في رحلة مجهولة ووسط مخاطر مجهولة أيضا وكنا في الواقع نتوقع أن تكون هذه المخاطر كبيرة ومتأكدين من إنها جدية ولكننا لم نكن نعرف عنها شيئا سوى أن أعدادا كبيرة من قوات النظام أصبحت تحاصرنا وهي مدججة بأسلحة كيماوية لا يمكن للمقاتلين مقاومتها مهما كانت عزيمتهم ومهما كان اندفاعهم وإخلاصهم لقضيتهم . فالمرء عندما يحمل السلاح بدافع من الضمير والقناعة ودفاعا عن قضية حق يؤمن بها إيمانا مطلقا يمكنه أن يحقق مآثر و بطولات في أشرس المعارك مع العدو ، ولكنه قد لا يستطيع تحقيق ذلك عندما يستخدم عدوه أسلحة كالأسلحة الكيماوية والتي أستخدمها نظام صدام حسين في العديد من المعارك مع قوات الأنصار والبيشمه ركه وضد الشعب الكوردي في مناطق عديدة من كوردستان . ورغم ان مناضلي الحرية من الأنصار والبيشمه ركه و قوات المقاومة الشعبية كانوا يدركون أن مقاومة مثل هذه الأسلحة مستحيلة فإنهم امتنعوا عن الاستسلام لها وكانوا يشعرون أنهم بحاجة إلى أسلوب آخر من النضال للتصدي لهذه الهمجية وفي الواقع أصبح واضحا أن هذه المهمة لا يمكن لها أن تتحقق دون أن تنتقل قضية الشعب العراقي بشكل عام والشعب الكوردي بشكل خاص و بجهودهم وعلى أكتافهم وبدمائهم وتضحياتهم وتضحيات الجماهير الكوردستانية إلى العالم الخارجي لكي تجد لنضالهما العادل سندا ودعما دوليان يساهم في ذلك كل المجتمع الدولي و القوى المحبة للسلام والإنسانية والحريصين على العراق وأصدقاء شعبه كوردا وعربا. ولكن يبدو أن المجتمع الدولي هذا كان ظالما لم يتحرك ساكنا وصادقا إزاء قضيتنا ولم يتألم أو يؤنبه ضميره عندما كان يراقب معاناتنا وفجائعنا إلا عندما تعرضت مصالحه إلى التهديد والخطر.
نعم كان من الحكمة أن يتم الإعداد لهذا الأمر عبر دراسة علمية ووضع خطط عملية للبحث عن مساندة دولية لهذه القضية العادلة التي كانت تفتقر إليها وخوض نضال لا هوادة فيه من أجل فضح نهج النظام الدكتاتوري وطبيعته العدوانية لغرض فرض عزلة دولية عليه ، لأنه أصبح واضحا إن إمكانية إسقاط هذا النظام غير متوفرة لدى المعارضة العراقية لأسباب 1- آلته العسكرية الهائلة بما في ذلك الأسلحة الكيماوية ألتي أصبح يستخدمها دون أي رادع في شتى المعارك في كوردستان بل ضد السكان الأبرياء في ريفها وقصباتها وأكبر دليل على ذلك مدينة حلبجة الشهيد والعديد من المناطق الأخرى التي جاء ذكرها في محطات سابقة . 2- الدعم الدولي الذي كان يحصل عليه وبشكل خاص الدعم العربي فرغم استخدامه الأسلحة المحرمة دوليا فإن أية إدانة دولية لم تصدر بحقه لكي تردعه عن ارتكاب جرائم أخرى ، بل كان يحصل على المزيد من أسلحة القتل الجماعي من دول ذات شأن وتأثير دوليان ... وإلى جانب هذا كان من الضروري عدم الإفراط بقوات الأنصار والبيشمه ركه وإبقاءها على الأرض كقوة فاعلة لمواصلة دكها مواقع السلطة حينما تتوفر الفرص لذلك وإيجاد أشكال أخرى لحربها تتلائم وحجم الآلة العسكرية للنظام وإمكانياته الهائلة في الجوانب المختلفة بعد تفويت الفرصة عليه في هذه الحملة الشرسة (حملة الأنفال ).
تحركنا وكما قلت عصرا آخذين بنظر الاعتبار ضرورة اختيار طريق لا تجبرنا المرور بداخل (سى ده را) بل المرور بجوارها وكان ذلك إجباريا ولم يكن بالإمكان تحقيق ذلك دون أن نسير في وديان غير مطروقة سابقا ومجهولة بالنسبة لنا ولكن كونها مناطق قريبة من المقر كنا نعرف كيف نخرج منها وهكذا واصلنا المسير إلى أن أشرفنا على (سى ده را) بعد أن حل الظلام ومن الجهة التي كنا نرغب أن نصلها أي من جهة ( كاني بوتكى )* التي تقع بين سى ده را وقمة الجبل المشرفة على به رى كارة وبالذات على قرية بهى . كان علينا أن نكون حذرين جدا ونحن نسير في سفح الجبل الذي يشرف على المقر لأنه بدأ وكأنه مليء بالقوات المتقدمة بسبب الأصوات التي كانت تصل إلى أسماعنا ولكن دون أن نستطيع تمييزها علاوة على النيران المنتشرة في أماكن عديدة من المقر وكنا نخشى كثيرا ما تصدره حوافر البغل الذي كان معنا من أصوات وهو يحمل عنا الكثير من ما لا نستطيع حمله وخصوصا أن المسافة بيننا وبين المقر لم تكن بعيدة كان يمكن أن ينكشف أمرنا بسهولة لو اصطدمت حوافر البغل أو قدم أي واحد منا بحجارة صغيرة وتدحرجت إلى الأسفل . فبحبس الأنفاس وبذل جهد كبير مع البغل أصبح مقر (سى ده را) خلفنا محاولين وعلى عجل الوصول إلى الطريق المطروقة والمعروفة بالنسبة إلينا .
تنفسنا الصعداء وسرعان ما أصبح كل شئ يسير بشكل طبيعي ونحن نواصل السير بأتجاه (زوم)* (سه فرا)* الخربة وهناك توقفنا قليلا للراحة وثم واصلنا المسير وبعد فترة قصيرة من تقدمنا لم تستغرق أكثر من 15 دقيقة سمعنا أصواتا تتقدم نحونا فأخذنا استعداداتنا تحسبا لأي طارئ ولكن سرعان ما تبين أن القادمين نحونا هم من المدنيين ومن أهالي قرية (كانيا باسكا ) المذكورة ضمن المحطات السابقة عدة مرات وكان يتقدمهم الشاب هاشم وهو أبن مام نجمان الذي يسكن القرية مع أخويه مام اوصمان وميرزا ، كنت على علاقة طيبة بعائلة هاشم التي استمرت إلى أيام دهوك بعد الانتفاضة ، تحدث هاشم لنا كيف أنه مع بقية عائلته وضمن أعداد كبيرة من الناس وصلوا إلى وادي قرية كافيا التي كان يسكنها أبناء عشيرة الزيبار وتراجعوا بعد ذلك عندما وصلت أخبارا تشير إلى أن الطريق الوحيدة المتبقية أمام هذه الأعداد الكبيرة سيطرت عليها قوات الجيش في قرية كافيا وتحدث عن معارك طاحنة خاضها بيشمه ركه قاطع أربيل للحزب الشيوعي قبل هذا الوقت على معبر روي شين أنقذوا خلالها أعداد كبيرة من العوائل وكبدوا العدو خسائر فادحة.
كان قلق هاشم كبيرا وهو الرجل الوحيد من بين أفراد عائلته يقود عددا من النساء وسط وضع صعب لم يفهمه وهو يريد العودة باتجاه قريته على أمل أن يلتقي هناك مع بقية أفراد عائلته وعوائل أعمامه ، ولكننا أوضحنا له خطورة الموقف وأن (سى ده را ) أصبحت الآن محتلة من قبل قوات الحكومة .
عرفنا منه أن هذه الأعداد الكبيرة من البشر أصبحت تتراجع بينها مفارز عديدة من قوات الحزب الديمقراطي الكوردستاني وقوات محلية نينوى لحزبنا الشيوعي العراقي وعوائل أنصارنا وذلك نحو جبل كارة للاحتماء به لأن القوات المتقدمة للعدو أصبحت تحاصر هذا الجبل بشكل تام وهذا ما كنا نلاحظه أولاحظناه بأم أعيينا على الأقل على مستوى جهة (سوارة توكه) عن طريق (سوارى وسبيندارى) وجهة أتروش وثم باكرمان ودينارته وها أن أهالي القرى الذين يعدون بالآلاف وقواتنا تتراجع أمام تقدم قوات النظام وإغلاقها لكل المنافذ من جهة بارزان وديرالوك وأخيرا كافيا وعرفنا كيف أن عوائل أنصارنا لم تستطع العبور عبر منفذ آشه وا بالقرب من سرسنك.
أصبحت الإطلاقات التنويرية تنطلق من كل جهة وصوب وأصوات الإنفجارات لا تتوقف ونحن لازلنا نسير على الطريق المؤدية إلى كه لي كافيا عبر قريتي (ئه ركنى وسيانى )* ونحسب في أي نقطة سنلتقي بجموع الناس وقواتنا . إلى أن وصلنا إلى (سيانى ) فجرا حين بدأت مجاميع المتراجعين تظهر لنا وهي تتوجه صعودا نحو كارة وبدأت قوات النظام المرابطة على قمم جبل في الجهة المقابلة واضحة لنا بالعين المجردة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- ( كاني بوتكى )*عين ماء تقع في منطقة عالية من جبل كارة من جهة سى ده را أي بينها وبين قرية بهى وفي ما يشبه على شكل حوض مقوس وعلى جانب منه في الجهة الجنوبية وكانت المياه التي تتدفق منها لا تزيد عن ما تدفعها أية حنفية منزلية ولكنها كانت مياه عذبة تتميز بشدة بردوتها ، في الصيف كان الرعاة يقضون عدة شهور عليها مع قطعانهم وخلال فترة الحصار أصبحت هذه العين المصدر الوحيد ترتوي منها هذه الآلاف من البشر المحاصرين .
- (زوم)* مراعي صيفية في الجبال يتوفر مستلزمات تربية الماشية . يذهب إليها الرعاة مع قسم من عوائلهم ، ولذا تجد لكل منطقة مراعيها الخاصة .
- (سه فرا)* كانت في السابق قرية وتحولت فيما بعد إلى أحدى هذه المراعي ومن ثم سكنتها بعض عوائل البيشمه ركه التابعة للحزب الديمقراطي الكوردستاني .
- (ئه ركنى وسيانى )*قريتان تقعان في نهايات كارة من جهة الجنوب الشرقي التي ترتبط بمنطقة الزيبار وتعتبر من المناطق الجميلة جدا وتسكنها عوائل زيبارية .

ليست هناك تعليقات: