الأربعاء، 7 مايو 2008

محطات من أنفال به هدينان - المحطة السابعة


محطات من أنفال به هدينان
ناظم ختاري
(المحطة السابعة)
ها نحن نلتقي مرة أخرى بأهالي قرى منطقة عملنا بعد أيام ثقيلة أهلكتنا كثيرا من غير أن نقاتل .. وكيف نقاتل ومن حولنا جيش عرمرم ومدجج بأسلحة غير تقليدية تقتل الإنسان لمجرد الاستنشاق العادي إنها تهب مع الريح ،إنها رياح صفراء عاتية ، إنها غازات سامة ، إنها الخردل والسيانيد...؟!
جيش لم يبارح المعركة مع إيران إلا منذ أيام قليلة . لازالت رائحة البارود تلف حوله وتفوح منه بقوة وتهيجه لمواصلة المزيد من القتل في كوردسان ولكن هذه المرة قتل كل شئ وبهمجية لم يسبق لها مثيل .. كيف نقاتل والقرار هو الانسحاب ..؟ وبالنسبة لنا كان هذا القرار في الواقع مفاجأة غير محسوبة لأنه لم يكن قرارنا نحن بالرغم من إنه كان ضروريا لتفويت الفرصة على هذه القوات المتقدمة وإنما فرض علينا وأصبح أمرا واقعا بسبب بدء النزوح الجماعي لسكان المنطقة والتي أصبحت على حين غرة خالية تماما من غير أن ندري . وهنا لابد من التـأكيد أن مفاجأة القرار كانت تكمن في وقت اتخاذه والذي جاء متأخرا وقتما أحكمت قوات النظام سيطرتها على أغلبية المنافذ الحدودية ووقتما كانت هناك توجيهات تدعو إلى المقاومة.. ودون أن تكون هناك دراسة للإمكانيات القادمة أو استعدادات معينة حول تغيير وجهة العمل البارتيزاني أو الانسحاب المؤقت مثلا وضرورة معالجة وضع العوائل بشكل يحافظ على حياتها ويساهم في تحرير أعداد ا من الأنصار أصحاب العوائل لمواصلة الكفاح ، أو نقل القضية إلى الخارج لكسب دعم دولي .. وغيرها من الإجراءات التي كان من شأنها أن تساهم في التخفيف من وطأة هذه الحملة العنيفة وخسائرها . فكانت حربنا قد أصبحت حرب مواجهة خرجت من نطاق كونها حرب بارتيزانية حيث كانت تشارك أعداد كبيرة من القوات في معارك جبهوية كانت تستمر لعدة أيام وعلى أراضي واسعة عندما كانت القوات العسكرية للنظام منشغلة في الحرب مع إيران و تحولت إلى حرب شبه شعبية شاركت فيها الجماهير عبر تشكيلات المقاومة الشعبية ، ولكنها كانت تنقصها المزيد من المستلزمات وقبل كل شئ عدم التوصل إلى حقيقة نوايا السلطة بعد أن تتوقف الحرب ، ولذلك لم يجر إتخاذ أي إجراء ضد هذه النوايا .
التقينا الناس وهم في حالة شديدة من الانكسار أمرهم شبيه بأمر جيش مهزوم من المعركة وهو يتقهقر أمام اندفاع عدو شرس باغتهم وفاجأهم بعديده وعدته ولكنه يفضل الموت على الاستسلام ، التقينا هم بعد أن كانوا يعتقدون بأنهم سيصلون بسهولة إلى الحدود التركية وبذلك يتخلصون من قبضة عساكر النظام و إجراءات أجهزته القمعية ولكن شاء القدر أن يرغم هذا العدد الكبير والبقاء معلقين في قمم كارة لكي تكون شاهدا على معانات إنسانية قل مثيلها . فلم يكن هناك ما هو طبيعي في هذه البقعة من كارة الذي قاوم المعتدين في أحلك الظروف . شعرنا إنه (كارة) يستعد هذه المرة لمعركة أخرى تختلف عن المعارك السابقة والتقليدية لا خيار فيها للمقاتلين غير خيار هذه القوات المتقدمة وهو الإجهاز على التواجد البشري في ريف كوردستان .
فمنذ ليلة أمس أصبحت هذه آلاف تتدفق من كل مكان وواد باتجاهه يتسلقون قممه الشاهقة ليخوضوا معركتهم مع الجوع والعطش والبرد وهم في حصار يفرضه ذلك الجيش متربصا لهم بالقتل كيماويا حينما يأتمر بأمر أحد قادتهم . كنت تجد في سيانى وهي منفذ صعودنا باتجاه القمة كل شئ يدمى له القلب ، امرأة لها من الأطفال عدد لا أتذكره كانت تصيح فيهم باكية لللحاق بها نحو قمة الجبل الذي لم يبلغوه قبلا غير بضعة خطوات صعودا عندما كانوا يلعبون في طرف قريتهم ما قبل زمن القصف والقتل بالكيماوي وقبل أن يسمعوا باسم سيد هذه الأسلحة القاتل المتوحش علي كيماوي ، امرأة أخرى تركت التنور مشتعلا دون أن تستطيع صنع رغيف واحد يساعدها وعائلتها على مقاومة الجوع القادم ، شيخ ينادي (فه رمانه ..هاوار.. فه رمانه )* ( داي وه له د هافيت) * ولم يكن يعني هذا الشيخ إلا الحقيقة بعينها عندما تركت امرأة أخرى مولود ها في (كه لي كافيا ) وهو في ساعاته الأولى . من يحكم هذا العالم يا ترى .. ولماذا لا يتحرك ضميره ويرفض هذا الظلم ..؟ تمتم أحد الأنصار بذلك وهو يراقب المشاهد بهدوء ويغسل جورا به بعد ليلة متعبة من السير بماء يتدفق من نبع صافي يقع في أعلى كه لى سياني وينحدر نزولا يلف القرية إلى نصفها ثم يتجه نحو باب الوادي حيث بساتين القرية التي تسقى منه لتشكل مصدر معيشة سكان القرية الأساس .. صاح رفيقنا المسئول العسكري استعدوا أيها الرفاق للصعود دون تأخير ، حملنا معنا ذلك العجين الذي تركته امرأة من هذه القرية وسرنا في الإتجاه الذي يسير فيه بقية الناس كان صعودا حادا يثقل من تعبنا كثيرا ولكن المشاهد المأساوية والكثيرة حولنا حالت دون نشعر إلا بها ، صرنا نساعد الأطفال على الصعود و نحملهم على ظهورنا المحملة بالعتاد والسلاح الشخصيان وكمية من الأغذية وما إلى ذلك ، كانت هذه المرأة والدة عدد من الأطفال تحمل فوق ظهرها ثقلا يعيقها من الحركة وكانت أبنتها ذات السنوات الستة تحمل شقيقها الرضيع على ظهرها و خلفها أطفال آخرون و بقية أخواتها وإخوانها كلهم كانوا بعمر الورود وكان مشهدهم يثير الكثير من الألم وخصوصا عندما كانت تلك الطفلة الصغيرة بين كل عدة خطوات تتدحرج نحو الأسفل مع ذلك الرضيع مما اضطررت رغم كل مإ كنت أحمله أن أحمل الرضيع على ظهري أيضا وعندما بلغت القمة جلست على طرف من الطريق منتظرا وصول والدة الطفل وجدت شابا يحمل الكثير من القلق يبحث هنا وهناك وينتظر قوافل الناس الصاعدة إلى قمة الجبل ولما وقعت عيناه علينا أنا والطفل أقترب وتفحص الطفل فسرعان ما قال أن هذا الطفل لي وأنا أبحث عنه فقلت له أن بقية عائلته ستصل بعد قليل .
بعد خطوات من وصولنا إلى القمة التقينا بالعديد من المعارف من أهالي هذه القرى وكان أولهم محمد رشيد سواري وهو أحد أقرباء رفيقنا أبو فيلمير سألته عن رفاقنا فأشار إلى مكان تواجدهم ، ومن هنا كنت تجد تدفق الناس إلى هذا المكان على شكل مجموعات متعددة تظهر من كل اتجاه متجمعة في هذا المكان الذي يمكنه أن يستوعب الكثير من البشر مع كل همومهم . مجموعة هنا وصلت للتو سرعان ما التصق اجساد أفرادها بالأرض بسبب التعب والإرهاق الشديدين والخوف وأخرى تغرق في نوم عميق وثالثة تحاول أن ترتب مكانا لها وقطيع غنم يسرح بين هذه المجاميع لا يعرف أحدا لمن يعود ، ولا أحدا يأبه بعائديته له وما أكثر هذه القطعان التي تحولت لحساب رؤساء ومستشاري الأفواج الخفيفة عندما تركها أهلها في مراعيها ضمن قراهم .. وهكذا كان العشرات من المحاصرين يسألون عن آباءهم وأمهاتهم وأطفالهم وأقرباءهم وأهالي قراهم الذين تاهوا بعضهم بعضا ، صرخات الأطفال ترتفع خوفا فإنهم لم يدركوا تماما ما الذي يجري وما تخبئه لهم الأيام القادمة وهم في يومهم الأول ويحصلون على الخبز بطريقة مقننة فكيف ستكون الأيام التالية ، بكاء النساء يتصاعد وهن يشعرن قبل غيرهن بحجم كارثة كل واحدة منهن حتى وإن لم تكن تفكر بأنها نفسها ستكون الضحية مثلها مثل الرجل المسلح والمقاوم . لا فرق في هذه المعركة الغير متكافئة بين رجل تحدى الجيوش ببندقيته البرنو وخلف صخرة في أحد جبال كوردستان وبين امرأة لم تخلف بعد مقاتلا من وطن هذه الجبال أو فتاة تتأمل الاقتران بمقاتل أو طفل لم يحارب أو لم يتعلم الحرب بعد أو شيخ عجزته كهولته عن الحرب والمقاومة ... مناداة الرجال لمفقود يهم تعلو وتملأ الوديان القريبة من هذه المنطقة حقا إنه( فه رمان ) لا يعرف أحدا كم من الدماء ستكون ثمنا لهذه الجريمة الوحشية .
كان هؤلاء الناس في المعارك السابقة أقوياء يشاركون بشجاعة في التصدي لغالبية هجمات قوات الجيش العراقي والمرتزقة ، بل يشاركون في توجيه ضربات موجعة لمواقع هذه القوات وكان التصدي المشترك للكثير من هذه الهجمات يتحول بالنسبة إلى الشبيبة الريفية إلى مناسبات لإظهار قدراتهم القتالية وفرص جيدة لتوثيق العلاقة بين أطراف عشائرية متنافرة وإزالة أسبابها ولكن اليوم ليست بيدهم حيلة.. فالعوائل تعيقهم والأسلحة الكيماوية تتهددهم . وأسباب تواجدهم هنا في هذا الحصار تستعصي على الفهم للكثير منهم ربما كان كل فرد منهم يفضل الموت بعد قتال في أطراف قريته أو أن يجري اقتياده من قبل هذه القوات المتقدمة من أطراف قريته بعد أن يستسلم لها عندما تنتهي كل وسائل المقاومة ولا يهم كيف سيكون مصيرهم فقدرهم كان دائما أن يدفعوا الضريبة جراء رفض ظلم الحكومات الشوفينية حتى ولو كانت هذه الضريبة حياتهم ، إذ كانوا مستعدين لها كما فعل الآخرون من قبلهم وضمن هذه الحملة نفسها التي بلغت ضحاياها البشرية وفق الوثائق الرسمية 182 ألف كوردي و4500 قرية مع كل ثرواتها الطبيعية والحيوانية .
وعندما تجد الإصرار لدى الناس حتى في حالات ضعفهم الشديدة والاستعداد للتضحية.. نعم الاستعداد للموت وهم يدركون تماما أن عدوهم لا يأبه بضعفهم فيحسبون أن قدرهم هو هكذا وأن هذا الضعف ليس إلا استعدادا للموت من اجل قضيتهم وليس استسلاما أو تسليم راية.. فهنا يطرح السؤال نفسه لماذا تم زجهم في هكذا موقف ضعيف وهذا الشكل من التضحية أو الموت ..؟ ألم تكن مقاومة هذه القوات المتقدمة في أول قرية تقع على طريق تقدمها خيارا أفضل من أن يدفن هذا العدد المذكور أعلاه في الرمال وفي مقابر جماعية انتشرت في كل مكان من العراق بعد أن واجهوا المزيد من إهانة كرامتهم الإنسانية ..؟!! ولحد الآن لم يتم العثور على مقابر الآلاف منهم ولا يستطيع ذويهم زيارة مقابرهم ووضع أكليل ورد عليها في المناسبات .. أم كان لابد من بروفة ثمنها هذا العدد من الضحايا لنقل القضية إلى الساحة الدولية بعد أن استنفذت كل الوسائل الأخرى من أجل تحقيق ذلك ..!! وكان للسياسة حساباتها الخاصة ...!!!! ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- (فه رمانه ..هاوار.. فه رمانه )* جملة كوردية تعني " إنها الإبادة.. النجدة.. إنها الإبادة"
- ( داي وه له د هافيت) * جملة كوردية تعني " الأم تتخلى عن ولدها "

ليست هناك تعليقات: